نقرأ في سورة إبراهيم قوله تعالى على لسان الرسل وهم يُخاطبون أقوامهم ويدعونهم إلى الله عز وجل ﴿قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ﴾ [إبراهيم: 10].
في هذه الآية نجد نموذجاً للخطاب الذي يقدمه الرسل إلى الناس، فالرسل يطلبون منهم أن يعودوا إلى الله لكي يغفر لهم ذنوبهم ويُمتِّعهم فيما بقي لهم من أعمارهم ﴿ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ﴾ [هود: 3].
وكأنهم يقولون لهم: أنتم أخطأتم كثيرًا في حق الله عز وجل، ومع ذلك فهو يُريد لكم الخير والسعادة في الدارين ولا يريد لكم الشقاء، ومن أعظم الأدلة التي تؤكد لكم ذلك؛ أنه هو الذي يطلب منكم تلبية دعوته بأن تُقبلوا عليه نادمين طالبين الصفح والعفو عن هذه الأخطاء ليعفو ويصفح ويغفر.
وتُصور لنا سورة إبراهيم في نهايتها أحد مشاهد الحياة لأناس لم يُلبوا هذه الدعوة حتى فاجأهم عذاب الله، وكيف سيكون ندمهم، وحسرتهم، وإلحاحهم في طلب الإمهال حتى يلبوا دعوة ربهم ﴿وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ﴾ [إبراهيم: 44].
فما هي تلك الدعوة التي يريدون الإمهال لإجابتها؟
أليست هي التي دلهم عليها الرسل، وطلبوا منهم ألا يُضيّعوها، لكنهم أبوا الانتفاع بها، فاشتد ندمهم بعدما تأكدوا أنها كانت دعوة حقيقية للمغفرة والرحمة ؟!
وقبل هؤلاء الرسل قام نوح عليه السلام بتبليغ هذه الدعوة لقومه ﴿ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ﴾ [نوح: 7].
.. نعم – أخي – هذا هو ربك الودود الرحيم الذي يريد الخير للناس جميعًا ﴿ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ﴾ [الزمر: 7].
يُريد منهم أن يعودوا إليه فيقبلهم، ويستغفروه فيغفر لهم، ويدخلهم الجنة.
أمة البلاغ:
ومن أعظم مظاهر الود الإلهي لعباده إنزال الكتب، وإرسال الرسل التي تستحثهم على سرعة العودة إليه، وتُبين لهم المطلوب منهم لكي ينجحوا في مهمتهم على الأرض.
وكان آخر هذه الكتب هو القرآن الكريم، وآخر هؤلاء الرسل هو محمد صلى الله عليه وسلم ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]، والهدف من إرساله هو الهدف من إرسال جميع الرسل ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ﴾ [النساء: 165].
﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل: 36].
فإن قلت: فإذا توقفت مسيرة إرسال الرسل عند محمد صلى الله عليه وسلم فمن الذي سيقوم بتبليغ الدعوة للبشرية جمعاء جيلًا بعد جيل؟
الجواب عن هذا التساؤل يستدعي أولًا التذكير بأن الله عز وجل قد تكفل بحفظ كتابه الأخير للبشرية من التحريف والضياع ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9].
وجعله مشتملًا وجامعًا للرسالة والمعجزة في آن واحد.. الرسالة: وما تحتويه من دلائل الهداية إليه سبحانه ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 185].
والمعجزة: وما تفعله من تأثير عميق فيمن يتفكر فيها ويُحسن استقبالها ﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾ [الحشر: 21].
فالقرآن إذن سيستمر وجوده بين الأجيال المتتابعة وحتى قيام الساعة، لتظهر الحاجة وتشتد لوجود الذين يقومون بوظيفة الرسل، وينوبون عنهم في تبليغ الرسالة، وتوجيه معجزتها للناس في كل زمان ومكان.. من هنا تتبين المسئولية العظيمة لأمة الإسلام تجاه البشرية.
أيها المسلم: أنت رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
أمة الإسلام لها وضع خاص أمام الله عز وجل، فهي الأمة المكلفة منه سبحانه بتبليغ رسالته للعالمين، ليكون كل فرد فيها بمثابة « رسول رسول الله » حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
وهذا يُفسر لنا انطلاق الصحابة الضخم وانتشارهم في الأرض – رضوان الله عليهم – بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد انطلقوا بدافع الشعور بالمسئولية تجاه الناس جميعًا، ولعل في كلمات ربعي بن عامر وهو يُجيب على رستم قائد الفرس عن سبب مجيئهم ما يؤكد هذا المعنى، يقول ربعي:
الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.