إذا كان هناك (مبلغ) من المال سيتقاضاه رجل (ما) نظير عمله بالتدريس في مدرسة من المدارس. هذا المال الذي قدَّره له الله لن يبقى كله معه، بل سيتوزع أغلبه على العديد من الأشخاص قد يبلغون المائة..؛
ما بين سائق، أو صاحب مطعم، أو بائع للصحف، أو صاحب مغسلة، أو مسكين، أو بائع أدوات منزلية، أو طبيب، أو صاحب صيدلية، أو … ، وكل واحد من هؤلاء له في علم الله نصيب محدد من هذا الراتب، وسيأخذه في وقت محدد لا يعلمه إلا الله.
.. هذه الترتيبات المرتبطة بالزمان والمكان.. الذي يديرها ويحرك الأحداث في اتجاه وقوعها في الزمان والمكان المقدر هو الله وحده لا شريك له.
.. هو الذي يوجه تفكير صاحب الراتب في وقت (ما) إلى الذهاب لمتجر (ما) لشراء شيء يُذكره به، ليقوم بتوصيل الرزق (المقدَّر) لصاحب المتجر في ذلك الوقت، ويشعر في وقت آخر بصداع وهو يسير في الطريق فيجد بالقرب منه صيدلية، فيدخلها ويشتري منها دواء ليقوم بتوصيل الرزق المقدر لصاحب الصيدلية في هذا الوقت.
يقف في الطريق العام ينتظر وسيلة مواصلات تنقله لمدرسته، وكلما مرت به مركبة لا يجد في نفسه رغبة لركوبها لأسباب مختلفة، حتى تأتي مركبة محددة -منذ الأزل- فيركب فيها ليتم تحصيل الأجرة منه، لتكون جزءاً مقَّدراً من رزق صاحب المركبة عليه أن يُحّصله في ذلك الوقت.
وهكذا يتم توزيع الراتب على هؤلاء المائة- إن افترضنا أنهم مائة فقط- ووراء هؤلاء عشرات بل مئات يتولى الله عز وجل توزيع أرزاقهم، ويوجههم لجمعها من أفراد محددين ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الزخرف: 32].
وليس الرزق فقط الذي يتولى سبحانه تقديره بين الناس؛ بل كل ما يتعلق بتسيير حياتهم.. يكفيك أن تتذكر أن الله عز وجل يقبض جميع أرواح العباد عند النوم، ويعيدها لهم عند اليقظة، ولم يحدث -ولو مرة واحدة- أن حلَّت روح شخص في شخص آخر، وكيف يحدث هذا والله هو الذي يتولى هذا الأمر كما يتولى جميع الأمور ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الزمر: 42].
هذا هو ربك الحي القيوم:
يروي أحد الأصدقاء أن أحد معارفه قابله وأعطاه مظروفاً به مبلغ من المال، وطلب منه أن ينفقه في أوجه الخير، ووضع صاحبنا المظروف في جيبه ثم افترقا، وبعد لحظات قابله صديق آخر بتلهف شديد، واشتكى له من ضائقة مالية شديدة ألمت به، وأخبره بأنه يريد على وجه السرعة قدراً (محدداً) من المال حتى يتجاوز الضائقة، فتذكر صاحبنا المظروف الذي في جيبه، فأعطاه إياه وطلب منه أن يُحص ما فيه، وإذا بالاثنين يفاجآن!! فلقد كان المظروف يحتوي على المبلغ المطلوب دون زيادة أو نقصان ﴿ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [المائدة: 97].
.. وآخر يحكي بأنه صعد يوماً الحافلة وكانت مزدحمة، فلم يجد مكانا للجلوس، وكان يحمل على كتفه ابنته الصغيرة، وبينما المركبة تسير في طريقها، شرد ذهنه في الماضي، وتذكر خطأً جسيما ارتكبه في حق أحد الأشخاص منذ سنوات بعيدة، ولا يعرف كيف يصل إليه ليستسمحه، وتذكر يوم القيامة، والحساب والقصاص، فتأثر تأثراً شديداً، ودمعت عيناه، وبينما هو في هذه الحالة إذ بيد تمتد إليه من أحد الركاب الجالسين فتأخذ منه طفلته ليُجلسها بجواره، فالتفت صديقنا لصاحب اليد ليفاجأ بأنه هو ذات الشخص الذي كان يتذكره منذ لحظات ولا يدري كيف يصل إليه، فانتابته لحظة ذهول ثم أقبل عليه يستسمحه ويسترضيه.
.. وصديق آخر يروي أنه كان في يوم من الأيام نائماً على أريكة، وفوق هذه الأريكة لوحة ضخمة معلقة على الحائط، وفي أثناء نومه انتبه وقام-تلقائيا- لينام على الأريكة المقابلة، ثم غط في نوم عميق، وبعد دقائق استيقظ على صوت ارتطام شديد بالأرض، فنظر أمامه والفزع يتملكه، وإذا باللوحة الضخمة قد سقطت على الأريكة التي كان نائماً عليها ثم على الأرض ﴿لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق: 12].
.. وفي أحد البلدان التي يضطهد فيها الدعاة إلى الله، وفي أثناء إحدى تلك المحاكمات الظالمة، أراد القاضي أن يستمع إلى أدلة الإثبات التي تُدين بعض الدعاة، وكانت من هذه الأدلة: تسجيلات صوتية لهم، فطلب القاضي إحضار جهاز التسجيل للاستماع لهذه التسجيلات المفتراة، وعندما جاءوه به طلب تجربة الجهاز أولاً، فبحثوا هنا وهناك حتى وجدوا (شريطا) مسجلاً عليه آيات من القرآن، فتناوله ووضعه في الجهاز، وضغط على زر التشغيل فإذا بصوت القارئ ينبعث من الجهاز، ويُجلجل في قاعة المحاكمة، وترن أصداؤه في جنباتها بقوله تعالى: ﴿وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [التوبة: 107]، فاضطرب القاضي ومن حوله وسارع بإغلاق الجهاز وهو في غاية التوتر.
والأمثلة كثيرة، وكلها تؤكد وتبرهن على أن لهذا الكون كله رباً واحداً، يديره، ويتابعه ويتعاهده، ويمده بما يقيمه ويصلحه… لا يغفل عنه لحظة واحدة ﴿يُدَبِّرُ الأمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾ [الرعد: 2].