تزكية النفس

طريق النجاة من تكوين الصنم (غلق الأبواب أمام النفس)

إذا كانت النفس تحاول أن تأخذ حظها من كل فعل يقوم به العبد، فإن هذه المحاولة تزداد عند حالات معينة، لذلك علينا أن نكون على حذر باستمرار، وأن نعمل جاهدين على غلق الأبواب أمامها لتفشل في محاولاتها.. ومن هذه الحالات:

عند ورود النعم:

بين الحين والآخر تَرِد نعم كبيرة على العبد مثل زيادة في الرزق، ونجاح في عمل أو دراسة، شراء بيت جديد، تغيير أثاث المنزل.

عند ذلك تجد النفس أمامها فرصة ومجالًا واسعًا للاستعظام، والفخر، والشعور بالتميز عن الآخرين بهذه النعم.. فماذا نفعل كي نغلق هذا الباب أمامها؟

علينا أن نسارع بشكر الله عز وجل وذلك من خلال:

1 – سرعة ربط النعمة بالمنعم – سبحانه وتعالى – وحمده عليها، كما قال تعالى لنوح عليه السلام: ﴿ فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [المؤمنون: 28 ].

2 – سجود الشكر الفوري بعد ورود النعمة: وإطالة هذا السجود، ومناجاة الله فيه، واعترافنا بفضله علينا، وأنه لولا كرمه وجوده سبحانه ما حصلنا على هذه النعمة.

عن سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة نريد المدينة، فلما كنا قريبًا من عزوراء ( موضع قريب من مكة ) نزل ثم رفع يديه، فدعا الله ساعة، ثم خر ساجدًا، فمكث طويلًا، ثم قام فرفع يديه ساعة، ثم خر ساجدًا – فعله ثلاثًا – وقال: ” إني سألت ربي، وشفعت لأمتي، فأعطاني ثلث أمتي فخررت ساجدًا لربي شكرًا، ثم رفعت رأسي، فسألت ربي لأمتي، فأعطاني ثلث أمتي فخررت ساجدًا لربي شكرًا، ثم رفعت رأسي، فسألت ربي لأمتي – فأعطاني الثلث الآخر، فخررت ساجدًا لربي ” رواه أبو داود.

ويوضح ابن القيم أهمية الشكر الفوري لله عز وجل بعد ورود النعم فيقول: حدوث النعمة يوجب فرح النفس وانبساطها، وكثيرًا ما يجر ذلك إلى الأشر والبطر، والسجود ذل لله وعبودية وتضرع.. فإذا تلقى به نعمته كان جديرًا بدوام تلك النعمة، وإذا تلقاه بالفرح الذي لا يحبه الله والأشر والبطر، كما يفعله الجهال عندما يحدث لهم من النعم، كانت سريعة الزوال وشيكة الانتقال، وانقلبت نقمة، وعادت استدراجًا[1].

وليكن سجود الشكر فور ورود النعمة، فتأخرنا عن ذلك يعطي للشيطان فرصة لإضعاف همتنا نحو الشكر.

قال بكر بن عبد الله: ينزل بالعبد الأمر فيدعو الله عز وجل فيصرفه عنه، فيأتيه الشيطان فيضعف شكره، يقول: إن الأمر كان أيسر مما تذهب إليه، قال: أو لا يقول العبد: كان الأمر أشد مما أذهب إليه، ولكن الله عز وجل صرفه عني[2].

3 – الإنفاق مما تحبه النفس: سواء كان ذلك في صورة صدقة أو هدية، فالنفس يزداد شحها في وقت إقبال النعم عليها وعلاجها بالإنفاق مرة بعد مرة حتى تسكن.

فى الصحيحين: أنه لما تاب الله على كعب بن مالك سجد وألقى رداءه إلى الذي بشره.

4 – المبالغة في القيام بصور التواضع: وبخاصة الجلوس مع المساكين وتقديم الطعام لهم، والقيام على خدمتهم.

جاء في الزهد للإمام أحمد: مما أوحى الله لعيسى عليه السلام: ” إذا أنعمت عليك بنعمة فاستقبلها بالاستكانة أتممها عليك”.. وقد مر علينا كيف كان حال النبي صلى الله عليه وسلم عندما دخل مكة فاتحًا.

5 – كثرة العبادة: وبخاصة قيام الليل، فعندما سألت السيدة عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبب قيامه بالليل حتى تورمت قدماه مع أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال لها: ” أفلا أكون عبدًا شكورًا “[3].

فاستقبال النعمة بهذه الأعمال سيكون له – بمشيئة الله – دور كبير في عدم السماح للنفس بالاستعظام والشعور بالتميز عن الآخرين، بل قد تكون هذه النعمة بمثابة وسيلة للقرب من الله عز وجل.

عند النجاح في القيام بعمل ما:

.. عند القيام بعمل مميز والنجاح في أدائه؛ كقيام ليل، أو دعوة مسلم شارد إلى المسجد، أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر.. عند مثل هذه الأحوال تجد النفس أمامها المجال رحبًا لجعل صاحبها يحمدها، ويعجب بها، ويستعظم فعاله، وهذا باب خطير لو فتح أمام العبد عليه إغلاقه بسرعة، وإلا تعرض عمله الذي تعب فيه للضياع.

فماذا نفعل لكي نغلق هذا الباب أمام نفوسنا؟!

1 – إخفاء العمل قدر الإمكان، وعدم التحدث به أمام أحد من الناس:

فكلما كان العمل في الخفاء قلت فرصة النفس للإلحاح على صاحبها بحمدها.

قال صلى الله عليه وسلم: ” إن الله عز وجل يحب العبد التقي الخفي “[4].

قال الحسن: لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يسمع[5] لهم صوت، إن كان إلا همسًا بينهم وبين ربهم عز وجل[6].

ووعظ الناس يومًا، فتنفس رجل الصعداء، فقال: يا ابن أخي ما عساك أردت بما صنعت؟ إن كنت صادقًا فقد شهرت نفسك، وإن كنت كاذبًا فقد أهلكتها.

ويقول محمد بن واسع: أدركت رجالًا، كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة، قد بل ما تحت خده من دموعه، لا تشعر به امرأته، ولقد أدركت رجالًا يقوم أحدهم في الصف فتسيل دموعه على خده لا يشعر به الذي إلى جانبه.

فلنعمل على إحاطة أعمالنا بأسوار عالية من السرية والكتمان- قدر الإمكان – ولا نسمح لأحد بالاطلاع عليها، ولنجتهد في تنفيذ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” من استطاع منكم أن يكون له خبء من عمل صالح فليفعل “[7].

2 – نسيان العمل بعد القيام به:

لنعمل على شغل أنفسنا بأمور أخرى فور الانتهاء من العمل الناجح المميز حتى لا نفكر كثيرًا فيه، وفى تميزه.. فكلما نسي العبد عمله الصالح بعد أدائه، كان ذلك أدعى لتعرضه للقبول من الله عز وجل لابتعاده عن محاولات النفس لسرقته والاستيلاء عليه، ومن ثم نفي الإخلاص منه.

ومن وسائل نسيان العمل كذلك: سؤال الله عز وجل أن يصرف عنا التفكير في هذا العمل، وكذلك عدم طلب رأى الناس فيه. وهذا أمر مهم في هذا الباب، فالبعض منا يحرص بعد قيامه بعمل ما – كإلقائه موعظة أو قيامه بخدمة الآخرين- على سؤال غيره عن رأيه في هذا العمل،و يظل معها حتى يستنطق لسانه بمدحه و الثناء عليه, مما يفتح للنفس بابًا عظيمًا للاستعظام والانتشاء والطرب.

3 – تقليل العمل:

كلما صغر العمل في عين صاحبه كان بعيدًا عن سطوة النفس، فلنفعل على ذلك، ولنسأل الله أن يصغر أعمالنا في أعيننا.

ومما يعين على ذلك: عدم إحصاء أعمالنا الصالحة، فلا نسجل مثلًا عدد ختمات القرآن التي ختمناها، ولا عدد العمرات التي أديناها..

وكذلك: الاستتار من الكرامات كرؤية صالحة أو موقف فيه ولاية من الله وجل.

يقول ابن رجب: وأما العلماء فلا تعظم هذه الخوارق عندهم، بل يرون الزهد فيها، وإنها من نوع الفتنة والمحنة وبسط الدنيا على العبد، فيخافون من الاشتغال بها، والوقوف معها، والانقطاع عن الله.

.. ودخل إبراهيم الحصري على أحمد بن حنبل فقال: إن أمي رأت لك منامًا، هو كذا وكذا، وذكرت الجنة، فقال: يا أخي إن سهل بن سلامة كان الناس يخبرونه بمثل هذا وخرج إلى سفك الدماء[8].

4 – تخويف النفس:

ومن طبيعة النفس أنها كالطفل إذا خوف خاف.. هكذا خلقها الله عز وجل فإذا ما ألحت علينا أنفسنا بحمدها: علينا أن نذكرها ونخوفها من عاقبة العُجب، وأنه يحبط العمل الذي أخذ منا وقتًا وجهدًا، وأنه كذلك يعرضنا لمقت الله عز وجل وحرمان التوفيق فيما نستقبل من أعمال.

عند المدح:

وهو من أخطر الأبواب على النفس.. فإذا ما فتح أمامها فإنها تجد المجال خصبًا لكي تنتفخ وتتعاظم.. فهو الشراب الحلو اللذيذ الذي يسكرها ويجعلها تعيش في أجواء النشوة والسرور والطرب.

لذلك قيل: المدح هو الذبح.. فمن أراد أن يذبح أحدًا فليكثر من مدحه، كما قال صلى الله عليه وسلم لمن مدح رجلًا عنده: ” ويحك قطعت عنق صاحبك، لو سمعها ما أفلح ” ثم قال: ” إن كان أحدكم لابد مادحًا أخاه فليقل أحسب فلانًا ولا أزكي على الله أحدًا، حسيبه الله إن كان يرى أنه كذلك”[9].

ماذا نفعل عند المدح؟

ولكن ماذا نفعل إذا ما مدحنا شخص في وجوهنا؟

1 – علينا بعدم الاسترسال أو التجاوب مع المدح ومدافعته بشتى الطرق:

فهذا رسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: ” لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله”[10].

وعن أنس أن رجلًا قال: يا محمد أيا سيدنا، وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” يا أيها الناس، عليكم بتقواكم، ولايستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله، أنا عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلنيها الله”[11].

أطرى رجل عمر بن عبد العزيز في وجهه، فقال: يا هذا؟ لو عرفت من نفسي ما أعرف منها، ما نظرت في وجهي.

وذكر أن العلاء بن زياد قال له رجل: رأيت كأنك في الجنة، فقال له، ويحك، أما وجد الشيطان أن أحدًا يسخر به غيري وغيرك؟[12].

ويعلمنا الحسن البصري كيف نرد على من يمدحنا فيقول: قيل لبعضهم: ما أقل التفاتك في صلاتك” وأحسن خشوعك!! فقال: يا ابن أخي، وما يدريك أين كان قلبي؟

وقيل لابن حنبل: ما أكثر الداعين لك، فتغرغرت عيناه، وقال: أخاف أن يكون هذا استدراجًا. وقال له خرساني: الحمد لله الذي رأيتك، قال: اقعد، أي شيء ذا؟ من أنا؟[13].

2 – زجر ونهي المادح:

فلو زجر كل منا من يمدحه، فلن يستمر في المدح، ولن يعود إلى تكرار ذلك مرة أخرى. قال صلى الله عليه وسلم: ” احثوا التراب في وجوه المداحين”[14].

وقال رجل يومًا لابن عمر: يا خير الناس، وابن خير الناس، فقال: ما أنا خير الناس، ولا ابن خير الناس، ولكني عبد من عباد الله، وأرجو الله وأخافه، والله لن تزالوا بالرجل حتى تهلكوه.

3 – مطالبة الناس بحمد الله لا حمدك:

فعلينا بتذكير المادح بحقيقتنا، وأن الذي يستوجب الحمد هو الله، لا نحن، فلو تركنا ولم يمدنا بأسباب التوفيق ما وفقنا.

يقول ابن رجب: من هنا كان أئمة الهدى ينهون عن حمدهم على أعمالهم، وما يصدر منهم من الإحسان إلى الخلق، ويأمرون بإضافة الحمد على ذلك لله وحده لا شريك له، فإن النعم كلها منه.

وكان عمر بن عبد العزيز – رحمه الله – شديد العناية بذلك، وكتب مرة إلى أهل الموسم كتابًا يقرأ عليهم، وفيه الأمر بالإحسان إليهم، وإزالة المظالم التي كانت عليهم، وفى الكتاب: ولا تحمدوا على ذلك إلا الله، فإنه إن وكلني إلى نفسي كنت كغيري.

ويستطرد ابن رجب: وحكايته مع المرأة التي طلبت منه أن يفرض لبناتها اليتامى مشهورة، فإنها كانت لها أربع بنات ففرض لاثنتين منهن، وهي تحمد الله، ثم فرض للثالثة، فشكرته، فقال: إنما كنا نفرض لهن حيث كنت تولين الحمد أهله فمري الثلاث يواسين الرابعة..[15].


[1] عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين ص 215.

[2] الشكر لابن أبي الدنيا ص 18.

[3] متفق عليه: البخاري ( 1/380 برقم 1078و 4/1830 برقم 4556 و 5/2375 برقم 6106) ومسلم (8/141 برقم 7302، 7303، 7304).

[4] رواه مسلم.

[5] الزهد لابن المبارك ص 45.

[6] الزهد للإمام أحمد ص 44، 45.

[7] صحيح، أخرجه الخطيب البغدادى والضياء وصححه الألباني في صحيح الجامع ح (6018).

[8] سير أعلام النبلاء 11/227.

[9] متفق عليه: البخاري (2/946، رقم 2519)، ومسلم (4/2296، رقم 3000).

[10] رواه البخاري برقم (3445).

[11] صحيح، رواه الإمام أحمد وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ح (1572).

[12] من تواضع لله رفعه ص 48.

[13] صلاح الأمة في علو الهمة 5/443.

[14] صحيح، رواه الترمذي عن أبي هريرة ـ وصححه الألباني في صحيح الجامع، ح (185).

[15] شرح حديث ما ذئبان جائعان ص 41، 42.