لقد فتح الله مكة لرسوله محمد صلي الله عليه وسلم وللمؤمنين بعد ثماني سنوات فقط من الهجرة.
وذهب النبي صلي الله عليه وسلم يطوف بالكعبة غداة الفتح المبين، وقد نكست الأصنام، واندحرت الجاهلية،وفر بقايا سدنتها هاربين هائمين.
ووقف أبا سفيان بن حرب زعيم الكفر السابق، الذي أسلم علي عجل، يرقب المشهد، ويصرخ في أعماقه حديث نفسي صامت لا يجرؤ علي إعلانه، يقول لنفسه: بم غلبني هذا الرجل؟!
وانطلقت خواطره أو هواجسه كالبرق الخاطف في المقارنات والموازنات المكتوبة، وفجأة ترك النبي صلي الله عليه وسلم الطواف واتجه إليه، وضرب علي صدره وقال: (غلبتك بالله يا أبا سفيان!).
وهذه خلاصة الخلاصات من قصص الأنبياء عليهم السلام، ومن ملاحم السيرة النبوية التي قادها محمد صلي الله عليه وسلم، ومن معارك المؤمنين والمؤمنات طوال التاريخ إذا أحسنوا(العبودية)، وأتقنوا(الإيمان):
(وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) (الأنفال:7،8).
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَوَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) (الأنفال: 36).
مشاهدات ومعاينات
في سنة:(1374ه-1954م) ابتلي المؤمنون والمؤمنات –في بلادنا- بمحنة بالغة عقب محنتهم الأولي التي سبقت هذا بست سنوات، وفيهما جرت عليهم سنة الله تعالي في الابتلاء والتمحيص، واصطلي المؤمنون والمؤمنات بنيران التعذيب، والتقتيل، والمحاكمات، والسجون، وثبت الله تعالي من شاء من عباده، فازدادوا إيمانًا مع إيمانهم، وتحرر الهدف جليًّا، وأصبح الإسلام في النفوس أغلي من النفس، والمال والولد، بعد أن دفعوا الثمن عمليًا في سبيل الله عز وجل:( وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (آل عمران 134).
وكفي بربك هاديًا ونصيرًا
ولكن يبقي السؤال قائمًا ملحًا: كيف نكافئ الفجوة الهائلة بيننا وبين الذين يصدون عن سبيل الله،من القوي الطاغية في الداخل والخارج؟!
والجواب المتفرد:(بالله الواحد القهار)!
إيمانًا فيه وثقة فيه، وتفويضًا إليه، وتوكلاً عليه عز وجل!
دعاءً وتسبيحًا وتمجيدًا له سبحانه وتعالي، ولجوءًا له وحده في الشدائد والكربات!
وهذا هو لب التربية الوثيقة العميقة في هذه المراحل الصعبة!!
وهذه هي عدة الأنبياء والمرسلين عليهم السلام طوال التاريخ البشري!
ولذلك استفاض القرآن الكريم في تقرير هذا المبدأ، باعتباره أصْل الأصول في الدين، والدليل العملي القطعي علي أنه رب الكون ومليكه ومدبره بلا شريك، ولا منازع، والآية الظاهرة المتكررة علي صدق الرسل، وصحة الدين، وسلامة اختيار المؤمنين، وفساد مواقف الكافرين، مع ما يملكون من كل الأسباب المادية للتفوق والغلبة!!
يقول الله تعالي:(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا) ( الفرقان 31).
وهذه قاعدة كلية عامة في الأنبياء، وأعدائهم من المجرمين، وفي عموم الكفاية الربانية في كل هداية ونصرة، مهما كانت العداوة.
وأما أكابر المجرمين الدهاة الذين يتقنون الكيد والأذى، فإن كيدهم يرتدد إلي صدورهم قبل غيرهم:(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) {الأنعام 123}.
ومثال ذلك المحدد: العمالقة الجبارون:( فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ* فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًاصَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ) {فصلت :15، 16}.
ثم في السيرة النبوية المتواترة ما يكفي ويشفي.
ماذا كان يملك النبي صلي الله عليه وسلم من المال، أو الرجال، أو مصادر القوة؟!
وكم كان الكفار المشركون يملكون في الجزيرة العربية، ومن ورائهم الدول الكبرى كالفرس والروم؟!
لقد علَّم الله تعالي محمدًا وأصحابه أن يقولوا في صلاتهم:( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) فلما أتقنوا العبودية لربهم، أكمل لهم المعونة، ونصرهم نصرًا مبينًا في حياته صلي الله عليه وسلم، وبعد مماته، وبارك في جهاده صلي الله عليه وسلم وفي جهادهم، وأجري مقاديره الغالبة من خلال أخذهم بالأسباب،( وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) { آل عمران 126}. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.