مع كون القرآن شفاء لكل ما يعاني منه الإنسان من أمراض، إلا أن له تأثيره الخاص في علاج مرض الإعجاب بالنفس وتضخم الذات.
فعندما يتتبع القارئ الآيات التي تتعلق بإزالة أسباب العُجب ومظاهره، ويقف عندها ويتفكر فيها، فإن مدلولاتها ومعانيها تنتقل إلى منطقة اللاشعور داخل العقل، وتشكل جزءًا رئيسيًا من يقينه مما يؤدي إلى تغيير حقيقي في تصوراته عن ربه، وعن نفسه، وعن الكون المحيط به لينطلق السلوك بعد ذلك منسجمًا مع هذا اليقين.
وهناك موضوعات معينة تم طرحها في الصفحات السابقة، علينا أن نتتبعها واحدة تلو الأخرى في رحلاتنا المباركة مع كتاب ربنا، والتي تبدأ من سورة الفاتحة وتنتهي بسورة الناس، ولا يتم الانتقال من موضوع إلى آخر إلا بعد أن يشعر المرء بأخذه كفايته منه وعدم وجود جديد يضيفه، وهذا يختلف من شخص لآخر من حيث كم القراءة، المهم هو النتيجة التي نريد أن نصل إليها من تمكن المعنى المراد الوصول إليه من عقولنا وقلوبنا وربطه بواقعنا وأحداث حياتنا.
وهذه الموضوعات هي:
التعرف على الله القيوم:
فعلينا أن نبحث في القرآن عن الآيات التي تتحدث عن معنى القيومية وأنواعها وصورها وعبودية التوكل والاستعانة بالله المترتبة عليها.
فمن صور القيومية: قيام الله عز وجل على خلق الإنسان طورًا طورًا ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [ المؤمنون: 12 – 14 ].
ومنها قيامه سبحانه على سقايتنا ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ﴾ [الحجر: 22 ].
ومنها قيامه على حفظ السماء مرفوعة بغير عمد ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا ﴾ [فاطر:41].
ومنها أمثلة قيامه بحفظ أوليائه ورعايتهم كما حدث لأهل الكهف ﴿ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ﴾ [ الكهف: 18 ].
التعرف على الله المنعم:
ومعرفة حقه علينا من شكر لنعمه ﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [ النحل: 78 ].
فكل نعمة أنعم الله بها علينا تستوجب الشكر ﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ﴾ [ الانبياء: 80 ].
فعلينا بالتعرف على نعم الله التي اختصنا بها من خلال آيات القرآن، كنعم الإيجاد من العدم ﴿ أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ* قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ﴾ [ الملك: 23].
ونعم العافية، ونعم الحفظ، ونعم التسخير ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ﴾ [الجاثية: 13 ].
ونعم الأمن والستر، ونعم التوفيق والثبات والهداية ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ ﴾ [ النور: 21 ].
ومن جوانب النعم كذلك:
نعم الاجتباء وسبق الفضل ﴿ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾[ الحج: 78 ].
… هذا الجانب الأخير له دور كبير في العلاج لأنه سيشعرنا بعظيم فضل الله علينا بلا أي سبب منا، فعلى سبيل المثال: عندما نقرأ الآيات التي تتحدث عن فرعون وقومه وما فعلوه في بني إسرائيل نستشعر عظيم فضل ربنا علينا أن لم يخلقنا في هذا الوقت، ولم يجعلنا من آل فرعون، وهكذا…
عفو الله أو النار:
فنبحث في القرآن عن الآيات التي تخبرنا بأن عملنا وسعينا لا يستوجب دخول الجنة أو النجاة من النار، فإما عفو الله ومغفرته أو النار، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [ آل عمران: 133].
وقوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ [ الملك: 12].
فمن خلال تتبع هذا الموضع والذي قبله “التعرف على الله المنعم ” تترسخ لدينا حقيقة تقصيرنا في حق الله، وأنه لو طالبنا بحقه لهلكنا، مما يدفعنا إلى الاجتهاد في العمل مع رؤيته بعين النقص والخوف من عدم قبوله ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [ البقرة: 218].
جوانب الفقر إلى الله:
ما هي الجوانب التي نحتاج فيها إلى الله لتستقيم حياتنا، وما هي الجوانب التي يمكننا أن نستغني فيها عن الله؟!
لنبحث في القرآن عن إجابة لهذين السؤالين لنخرج بحقيقة راسخة عنوانها: لا غنى لنا عن مولانا طرفة عين، فنردد بيقين: لا حول ولا قوة إلا بالله.
ومن الأمثلة لذلك:
- الفقر إلى الله في دوام العافية ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ ﴾ [ الأنعام: 46].
- الفقر إلى وجود الرزق ﴿ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ ﴾ [ الملك:21 ].
- فقر العصمة من الفجور ﴿ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [يوسف: 33].
حقيقة الإنسان:
ليبحث كل منا – من خلال القرآن – عن أصله وحقيقته، وجوانب ضعفه وعجزه وجهله، وما هي حدود ملكه في هذا الكون كما سبق بيانه.
كقوله تعالى: ﴿ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ﴾ [ المرسلات: 20 ].
وقوله: ﴿ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [ النساء: 28 ].
وقوله: ﴿ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [لقمان: 34 ].
طبيعة النفس:
علينا أن نبحث في القرآن عن طبيعة أنفسنا ومدى شحها وطغيانها، وكيف نظلمها حين نتبع هواها، ونبحث كذلك عن كيفية جهادها، ووسائل تزكيتها كقوله تعالى: ﴿ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ﴾ [ يوسف: 53 ].
وقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [ الحشر: 9].
كيف ربَّى الله رسله وأنبياءه على تمام العبودية له؟:
وعدم رؤية أنفسهم إلا بعين الحذر والنقص، وكيف كانت التربية القرآنية للرسول صلى الله عليه وسلم تركز على أنه عبد لا يملك من أمره شيئًا، مثله مثل سائر البشر ﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ الأعراف: 188 ].
وقوله: ﴿ لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا ﴾ [ الإسراء: 22 ].
وقوله تعالى: ﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ﴾ [ آل عمران: 128].
التعرف على الله الغني الحميد:
فنتتبع الآيات التي تتحدث عن غنى الله عنا، وعن عبادتنا، وأن صلاحنا لمصلحتنا ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾ [ الإسراء: 7 ].
ونتتبع كذلك صور عبادة الكون لله، ليملأ الحياء أنفسنا مما نقدمه من طاعات قليلة كقوله تعالى: ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾ [الإسراء: 44 ].
علاج القرآن لحالات الإعجاب بالنفس والاغترار بها، والتكبر على الآخرين..
وذلك من خلال تتبع نماذج من وقعوا في براثن هذه الأمراض، وكيف تعاملت الآيات معهم كبني إسرائيل الذين زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه، ومع ذلك فقد قدم لهم القرآن وصفة العلاج التي تخلصهم مما هم فيه من تذكيرهم بنعمه عليهم كقوله: ﴿ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ﴾ [ البقرة: 46، 50 ].
وتخويفهم من عواقب أفعالهم ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ [ البقرة: 48 ].
وتدحض مزاعمهم وتكشفهم أمام نفوسهم ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [ البقرة: 91 ].
فهذه تسعة موضوعات من شأنها أن تزيل – بعون الله – ومدده – الكثير والكثير من مظاهر رؤية النفس واستعظامها، فلينا أن نحسن التعامل معها، وإعطاء كل موضوع منها حقه من الوقت، ولا بأس من تكرارها لتزداد الفائدة المترتبة على ذلك.
والله الموفق.