التربية الإيمانية

كيف يربي القرآن القلب (التربية الإيمانية) 2-4

القرآن ودوره في دخول الإيمان القلب:

دخول الإيمان والنور في القلب نعمة عظيمة من الله عز وجل، كما قال تعالى على لسان نبيه: ﴿قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ﴾ [سبأ: 50].

وقال تعالى: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي﴾ [المائدة: 111].

فالإيمان محض فضل من الله عز وجل يمنحه لمن يجد عنده الرغبة فيه، كما في الحديث القدسي: «يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم»[1].

ومما لا شك فيه أن القناعة العقلية هي مبدأ هذه الرغبة.. هذه القناعة لابد لها أن تمتزج بميل قلبي وعاطفة تنتظر اللحظة المناسبة التي يمُنُّ الله فيها عليها. فتتوهج وينشرح صدر صاحبها للإيمان، قال تعالى: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ﴾ [الأنعام: 125].

وهنا يأتي دور القرآن:

فمن أقبل على القرآن وهو يبحث فيه عن الهدى وجده.. لماذا ؟!

لأنه سيجد فيه ردًّا شافيا على ما يتردد في عقله من تساؤلات حول قضية الوحدانية، وقصة الوجود وما بعد الموت و..

لكن هذا كله لا يكفي – كما ذكرنا – فالقناعة العقلية إن لم يصاحبها إصغاء قلبي فستظل حبيسة العقل، كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ﴾ [الأنعام: 36].

وهنا يأتي الدور الآخر للقرآن ألا وهو قدرته على إثارة المشاعر وتأجيجها، فالقرآن ليس تذكرة للعقول فقط، ولكنه أيضا موعظة تثير المشاعر والعواطف.

قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 57].

دور الموعظة :

الموعظة كالسياط تهز القلب، وتهيئه للإصغاء إلى صوت العقل فتنشأ الرغبة، ويزداد الشوق إلى الإيمان الذي يدخل نوره القلب في الوقت الذي يحدده الله سبحانه وتعالى.

وهنا أمثلة كثيرة توضح قدرة القرآن على مخاطبة العقل وإثارة مشاعر القلب في نفس الوقت، مما يُهيئ سامعه للهداية إن استمر في التعامل معه.

وإليك هذا المثال والذي نراه يتمثل في أحد صناديد الكفر –عتبة بن ربيعة – الذي ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحاوره، ويعرض عليه ترك دعوته ودينه مقابل ما يُريد من مال أو جاه أومُلك.

فما كان من رسول الله إلا أن انتظر حتى فرغ من كلامه ثم تلا عليه صدر سورة فصلت حتى قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾ [فصلت: 13].

فلم يستطع عتبة أن يتحمل أكثر من ذلك فوضع يده على فيِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وناشده بالرحم أن يسكت، وعاد إلى قومه فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله من قبل، والله ما هو بالسحر ولا بالشعر ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، خلُّوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، فقالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم[2].

والمتأمل للآيات التي قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على عتبة يجدها تُخاطب العقل وتقنعه بوحدانية الله عز وجل وبملكه التام والمُطْلق لهذا الكون، وفي نفس الوقت فإن الآيات تُثير المشاعر وتهز القلب وتخوفه، فينتج عن هذا امتزاج الفكر بالعاطفة، وهذا ما حدث لعتبة لكنه لم يستثمر الفرصة العظيمة التي سُنحت له.

القرآن يمزج االفكر بالعاطفة :

إليك مثال آخر يوضح طريقة القرآن في مزج القناعة العقلية بالعاطفة القلبية.

يقول تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: 23].

فهذا خطاب موجَّه للعقل يحمل تحديًّا معجزًا ولكن هذا وحده لا يكفي لحدوث الرضا القلبي، بل لابد من هزِّ القلب، وإثارة مشاعره، وهذا ما نجده في الآيات التالية للآية السابقة: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 24- 25].

فامتزاج الفكر بالعاطفة هو طريقة القرآن الفريدة في تحويل وجهة القلب إلى الله عز وجل، لينتظر القلب بعد ذلك فضل الله سبحانه وتعالى في إدخال نور الإيمان إليه.

يتبع في المقال القادم إن شاء الله…


[1] أخرجه مسلم (4/1994، رقم 2577).

[2] البيهقى فى الدلائل، وابن عساكر، والضياء، وفي كنز العمال (35428).