من تعريفات الزهد : « انصراف الرغبة عن الشيء مع وجوده » ، ومثال ذلك : الطفل الذي يسعد سعادة غامرة حين يلعب بالدُمَى ، ويحرص على اقتنائها ، ويحلم بشراء الجديد منها ، ولكن عندما يكبر هذا الطفل بضع سنين تجد حرصه وشغفه وفرحه بهذا اللعب يقل ويقل إلى أن يزول وتنصرف رغبته عنها فيصير زاهدًا فيها ولا يُبالى بوجودها إذا ما وُجدت ، ولا يحزن على ضياعها إذا ما فُقدت .
وحال الناس مع الدنيا – بدون الإيمان – كحال الأطفال مع لِعَبهم ، ولكي يزهدوا فيها لابد من نمو الإيمان في قلوبهم .
فعندما يقوى الإيمان في القلب يقل تعلق صاحبه بالدنيا ، ورغبته فيها ، وحرصه عليها .
.. نعم ، هو لن يتركها ببدنه بل يتركها بقلبه ، فالزهد حالة شُعورية يعيشها المرء كانعكاس لنمو الإيمان الحقيقي في قلبه ، وهو لا يستلزم الفقر ، ولا يتنافي مع الغنى .
.. الزاهد في الدنيا لا ينشغل بها كثيرًا إذا ما وُجدت بين يديه ، فعلى سبيل المثال : قد يتوفر لديه العديد من الملابس ، فإذا ما أراد الخروج من منزله فإنه لا يقف أمامها طويلًا إنما يرتدي ما امتدت إليه يده ، وهو حين يفعل ذلك يفعله بتلقائية تعكس حالة قلبه الإيمانية .
وكلما قوى الإيمان أكثر وأكثر ازداد تعلق صاحبه بالآخرة ورغبته فيها ، وازداد زهده في الدنيا بصورة أشد وأشد لدرجة أنه لا يترك لنفسه إلا أقل القليل منها وبما يُحقق له ضروريات الحياة ، وليس هذا بسبب معارضته لمبدأ التمتع بمُباحات الدنيا ، ولكن لأن إيمانه يأبى عليه ذلك ويدفعه لاستثمار كل ما يأتيه في حياته لداره الآخرة متمثلًا قول الله تعالى : ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ ﴾ [القصص/77] ، لذلك فهو يحتاج دومًا إلى من يذكره بقوله تعالى : ﴿ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ﴾ [القصص/77] .
وكيف لا ، وإيمانه يأبي عليه أن يتوسع في هذا النصيب .
هكذا كانوا :
بهذه المستويات الإيمانية تعامل الصحابة – رضوان الله عليهم – مع الدنيا فكانت منهم أحوال عجيبة يستغرب منها أمثالي من ضعاف الإيمان الذين لا يزالون في مرحلة الطفولة واللهو بطين الأرض .
فهذا أبو الدرداء نزلت به جماعة من الأضياف في ليلة شديدة البرد فأرسل إليهم طعامًا ساخنًا، ولم يبعث إليهم بالأغطية فلما هموا بالنوم جعلوا يتشاورون في أمر اللُّحف ، فقال واحد منهم : أنا أذهب إليه وأكلمه ، فمضى حتى وقف على باب حجرته فرآه قد اضطجع وما عليه إلا ثوب خفيف لا يقي من حر ولا يَصُون من برد ، فقال الرجل لأبي الدرداء : ما أراك بت إلا كما نبيت نحن !! أين متاعكم ؟! فقال : لنا دار هناك نُرسل إليها تباعًا كل ما نحصل عليه من متاع ولو كنا قد استبقينا في هذه الدار شيئًا منه لبعثنا به إليكم ، ثم إن في طريقنا الذي سنسلكه إلى تلك الدار عقبة كؤود المُخِفّ فيها خير من المُثقِل ، فأردنا أن نتخفف من أثقالنا علَّنا نجتاز ([1]) .
وكان طلحة بن عبيد الله تاجرًا فجاءه ذات يوم مال من « حضرموت » مقداره سبعمائة ألف درهم ، فبات ليلته جزعًا محزونًا .
فدخلتْ عليه زوجته أم كلثوم ، وقالت : ما بك يا أبا محمد ؟!! لعله رابك منَّا شيء !!
فقال : لا ، ولنِعْمَ حليلة الرجل المسلم أنت ، ولكن تفكرت منذ الليلة وقلت : ما ظن رجل بربه إذا كان ينام وفي بيته هذا المال ؟! ، قالت : وما يغمك منه ؟! أين أنت من المحتاجين من قومك وأخلَّائك ؟! فإذا أصبحت فقسمه بينهم ، فقال : رحمك الله ، إنك موفقة بنت موفق ، فلما أصبح جعل المال في صُرَرٍ وجِفَان ، وقسمه بين فقراء المهاجرين والأنصار ([2]) .
.. وفي يوم من الأيام دخل على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بعض ممن يثق بهم من أهل « حِمص » ، فقال لهم : اكتبوا لي أسماء فقرائكم حتى أسُدّ حاجاتهم ، فرفعوا إليه كتابًا فإذا فيه فلان وفلان ، وسعيد بن عامر ، فقال : ومن سعيد بن عامر ؟! فقالوا : أميرنا . قال : أميركم فقير ؟! قالوا : نعم ، ووالله إنه لتمر عليه الأيام الطوال ولا يوقد في بيته نار ، فبكى عمر حتى بللت دموعه لحيته ، ثم عمد إلى ألف دينار فجعلها في صُرَّة وقال : اقرؤوا عليه السلام مني ، وقولوا له : بعث إليك أمير المؤمنين بهذا المال لتستعين به على قضاء حاجاتك .
جاء الوفد لسعيد بالصُرَّة فنظر إليها فإذا هي دنانير ، فجعل يُبعدها عنه ويقول :« إنا لله وإنا إليه راجعون» فهبَّت زوجته مذعورة وقالت : ما شأنك يا سعيد ؟! أمات أمير المؤمنين ؟! قال : بل أعظم من ذلك . قالت : أأُصيب المسلمون في واقعة ؟! قال : بل أعظم من ذلك ، قالت : وما أعظم من ذلك ؟! قال : دخَلتْ عليَّ الدنيا لتُفسد آخرتي ، ودخَلتْ الفتنة في بيتي . فقالت : تخلَّص منها ، قال : أوتُعِينيني على ذلك ؟ قالت : نعم . فأخذ الدنانير فجعلها في صُرَرٍ ثم وزعها ([3]) .
.. وهذا خباب بن الأرت يدخل عليه بعض أصحابه وهو في مرض الموت فيقول لهم : إن في هذا المكان ثمانين ألف درهم ، والله ما شدَدْتُ عليها رباطًا قط ، ولا منعت منها سائلًا قط ، ثم بكى ، فقالوا : ما يبكيك؟! فقال أبكي لأن أصحابي مضوا ولم ينالوا من أجورهم في هذه الدنيا شيئًا ، وإني بقيت فنلت من هذا المال ما أخاف أن يكون ثوابًا لتلك الأعمال ([4]) .
.. وهذا سعد ابن أبي وقاص يذهب إلى سلمان الفارسي يعوده فرآه يبكي ، فقال له سعد : ما يبكيك يا أخي ؟ أليس قد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أليس ..؟ قال سلمان : ما أبكي واحدة من اثنتين ، ما أبكي ضَنًّا على الدنيا ، ولا كراهية في الآخرة ، ولكن رسول الله صلى الله عليه عهد إلينا عهدًا ما أراني إلا قد تعدَّيت ، قال : وما عَهِد إليك ؟ قال : عَهِد إلينا أنه يكفي أحدكم من الدنيا مثل زاد الراكب ، ولا أراني إلا قد تعدَّيت ([5]) .. فجُمع مال سلمان فكان قيمته خمسة عشر درهما ([6]) .
( [1] ) الإصابة ج3 ترجمة ( 6117) ، وأسد الغابة ( 4/159) ، تاريخ الإسلام للذهبي ( 2/107 ) .
( [2] ) طبقات ابن سعد ( 3/214) ، وتهذيب التهذيب ( 5/20) ، والإصابة ( 2/229) ترجمة ( 4266) ، وحلية الأولياء ( 1/7) .
( [3] ) الإصابة ج2 ، ترجمة ( 3270 ) ، وحلية الأولياء ( 1/244) ، وتهذيب التهذيب ( 4/51) ، وصفة الصفوة ( 1/372 ) .
( [4] ) الإصابة ، ج1 ، ترجمة (2210) ، وأسد الغابة ( 1/316 ) ، وحلية الأولياء ( 1/143) ، وصفة الصفوة ( 1/168) .
( [5] ) أخرجه أبو يعلى (8/80 ، رقم 4610) ، والطبراني (4/77 ، رقم 3695) ، والبيهقي في شعب الإيمان (7/307 ، رقم 10400) ، وأبو نعيم في الحلية (1/360) .
( [6] ) أخرجه ابن حبان (2/481 ، رقم 706) .