حُكي أن سليمان بن عبد الملك قدِم المدينة وهو يريد مكة.. فسأل عمن بقي فيها ممن رأى صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقيل له: أبو حازم!
(أبو حازم الأشجعي من ثقات التابعين، واسمه سليمان الكوفي،ويقال: إنه جالَس أبا هريرة رضى الله عنه خمس سنين)[1].
فأرسل إلى أبي حازم فدعاه، فلما دخل عليه قال له سليمان: يا أبا حازم، ما لنا نكره الموت؟
فقال: لأنكم خربتم آخرتكم وعمّرتم دنياكم فكرهتم أن تنتقلوا من العَمَار إلى الخراب.
يعترض أبو حازم على مسلك سليمان بن عبد الملك .. مع أن سليمان الثري وليَ الخلافة لمدة سنتين وثمانية أشهر ومات وهو ابن التاسعة والثلاثين من عمره، جهَّز جيشًا لفتح القسطنطينية، بيد أن الله لم يقدر له أن يفتحها، فحاصرها وصالح أهله على بناء مسجدها[2].
ونظر في أمر الرعية، وكتب إلى عماله: إن الصلاة قد أميتت فأحيوها بوقتها..قال عنه ابن سيرين: رحم الله سليمان افتتح خلافته بإحياء الصلاة واختتمها باستخلاف عمر بن عبد العزيز[3].
فقال سليمان: يا أبا حازم، كيف القدوم على الله؟
قال: يا أمير المؤمنين، أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله، وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه.
(والآبق هو العبد الذي هرب من سيده ثم أُعيد إليه).
فبكى سليمان وقال: ليت شعري ، مالي عند الله؟
قال أبو حازم: اعرض نفسك على كتاب الله ، حيث قال: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13، 14].
قال سليمان: فأين رحمة الله؟
قال: {قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56].
ثم قال سليمان: يا أبا حازم، أي عباد الله أكرم؟
قال: أهل البر والتقوى.
قال: فأي العمل أفضل؟
قال: أداء الفرائض مع اجتناب المحارم.
قال: فأي الكلام أسمع؟
قال: قول الحق عند من تخاف وترجو.
(يقصد بذلك حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر).
قال سليمان: فأي المؤمنين أكيس؟
قال: رجل عمل بطاعة الله ودعا الناس إليها ..
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].
قال: فأي المؤمنين أخسر؟
قال: رجل خطى في هوى أخيه وهو ظالم، فباع آخرته بدنيا غيره.
قال سليمان: ما تقول فيما نحن فيه؟
قال: أو تعفيني؟
قال: لابد، فإنها نصيحة تُلقيها إليّ.
قال: يأ أمير المؤمنين إن أباءك قهروا الناس بالسيف، وأخذوا هذا الملك عُنوة، من غير مشورة من المسلمين ولا رضا منهم، حتى قتلوا منهم مقتلة عظيمة، وقد ارتحلوا، فلو شعرت بما قالوا وما قيل لهم.
فقال له رجل من جلسائه: بئسما قلت.
قال أبو حازم: إن الله قد أخذ الميثاق على العلماء ليُبيننه للناس ولا يكتمونه.
قال سليمان: وكيف لنا أن نصلح هذا الفساد؟
فقال: أن تأخذه من حله فتضعه في حقه.
قال سليمان: ومن يقدر على ذلك؟
قال: من يطلب الجنة ويخاف من النار.
فقال سليمان: ادع لي.
فقال أبو حازم: اللهم إن كان سليمان وليك فيسره لخيري الدنيا والآخرة، وإن كان عدوك فخذ بناصيته إلى ما تحب وترضى.
فقال سليمان: أوصني.
قال: أوصيك وأوجز، عظِّم ربك، ونزِّهه أن يراك حيث نهاك، أو يفقدك حيث أمرك.
وقال عمر بن عبد العزيز لأبي حازم: عِظني.
فقال: اضطجع، ثم اجعل الموت عند رأسك، ثم انظر إلى ما تحب أن يكون فيك تلك الساعة فخذ به الآن، وما تكره أن يكون فيك تلك الساعة فدعه الآن، فلعل تلك الساعة قريبة[4].
رحم الله سلفنا الصالح، هانت في أعينهم الدنيا بما فيها، فرأيناهم في مثل هذه المواقف.
[1] سير أعلام النبلاء 5/7. [2] البداية والنهاية 9/177. [3] سير أعلام النبلاء 5/111. [4] إحياء علوم الدين 5/120.