الإيمان الحي يوقظ القوى الخفية داخل الإنسان ويجعله دومًا يتحدى أوضاعًا أقوى منه ، ويجتاز مصاعب أعظم بكثير من حدود إمكاناته ..
فعندما يتمكن الإيمان من القلب تزداد رغبة العبد في القيام بكل ما يحبه ربه ويرضاه فتجده يتحدى الصعاب ، ويتحمل الشدائد في سبيل ذلك .
اجتمع يوما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، وكانوا قلة مستضعفين فقالوا : والله ما سمعت قريش هذا القرآن يُجهر لها به قط ، فمن رجل يُسمعهم إياه ؟ فقال عبد الله بن مسعود : أنا أُسمعهم إياه . فقالوا : إنا نخشاهم عليك ، إنما نريد رجلا له عشيرة تحميه وتمنعه منهم إذا أرادوه بِشَر . فقال : دعوني فإن الله سيمنعني ويحميني .
ثم غدا إلى المسجد حتى أتى مقام إبراهيم في الضحى ، وقريش جلوس حول الكعبة ، فوقف عند المقام وقرأ : بسم الله الرحمن الرحيم – رافعًا بها صوته – ﴿ الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ﴾ [الرحمن/1-4] . ومضى يقرؤها ، فتأملته قريش وقالت : ماذا قال ابن أم عبد ؟! تبًّا له ، إنه يتلو بعض ما جاء به محمد ، وقاموا إليه وجعلوا يضربون وجهه وهو يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ ، ثم انصرف إلى أصحابه والدم يسيل منه ، فقالوا له : هذا الذي خشينا عليك ، فقال : والله ما كان أعداء الله أهون في عيني منهم الآن ، وإن شئتم لأُغَادينَّهم بمثلها غدًا ، قالوا : لا ، حسبك ، لقد أسمعتهم ما يكرهون ([1]) .
وهذا عمرو بن الجموح يرى أبناءه الثلاثة يتجهزون للقاء أعداء الله في أُحد ، فعزم على أن يغدو معهم إلى الجهاد ، لكن الفتية أجمعوا على منع أبيهم مما عزم عليه ، فهو شيخ كبير طاعن في السن ، وهو إلى ذلك أعرج شديد العرج ، وقد عذره الله فيمن عذرهم ، فقالوا له : يا أبانا ، إن الله عذرك ، فعلام تُكلف نفسك ما أعفاك الله منه ؟!
فغضب الشيخ من قولهم ، وانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكوهم ، فقال : يا نبي الله ، إن أبنائي هؤلاء يريدون أن يحبسوني عن هذا الخير وهم يتذرعون بأني أعرج ، والله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبنائه : « دعوه ؛ لعل الله عز وجل أن يرزقه الشهادة » . فخلوا عنه إذعانًا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وما إن أزِف وقت الخروج ، حتى ودع عمرو بن الجموح زوجته ، ثم اتجه إلى القبلة ورفع كفيه إلى السماء وقال : « اللهم ارزقني الشهادة ولا تردني إلى أهلي خائبًا » . ثم انطلق يُحيط به أبناءه الثلاثة .. ولما حمي وطيس المعركة ، وتفرق الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شوهد عمرو بن الجموح يمضي في الرعيل الأول ويثب على رجله الصحيحة وثبًا وهو يقول : إني لمَشتاق إلى الجنة ، إني لمَشتاق إلى الجنة ، وكان وراءه ابنه « خلَّاد » ومازال الشيخ وفتاه يجاهدان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خرَّا صريعين شهيدين على أرض المعركة ، ليس بين الابن وأبيه إلا لحظات ([2]) .
وإن تعجب من أثر الإيمان فعَجَبٌ إصرار عبد الله بن أم مكتوم على الجهاد وهو أعمى ، وسفره مع جيش سعد بن أبي وقاص إلى القادسية لملاقاة الفرس ، وهو لابس درعه ، مستكمل عدته ، فيتقدم ليحمل راية المسلمين … وهو أعمى !! ويحافظ عليها إلى أن قُتل شهيدًا ، وهو يحتضن الراية !! ([3]) .
فليت شعري أي قوة أخرجت هؤلاء من ثوب أعذارهم، وجعلتهم يقفزون على حواجز عاهاتهم، فسبقوا أصحاب العافية، وأذهلوا أرباب العزائم الواهية.
إنه الإيمان، تسربلوا به وتدرعوا، فواجهوا سهام الشدائد ورماح الصعاب.
( [1] ) صور إيمانية من حياة الصحابة والتابعين 1/314 ، نقلًا عن سير أعلام النبلاء للذهبي ، وصفة الصفوة لابن الجوزي .
( [2] ) سير أعلام النبلاء ( 1/54) ، وتاريخ الإسلام للذهبي ( 2/216 ) ، والبداية والنهاية لابن كثير ( 4/42 ) .
( [3] ) صور إيمانية من حياة الصحابة والتابعين 1/131 ، 132، نقلًا عن الإصابة لابن حجر ، والطبقات لابن سعد ، وصفة الصفوة لابن الجوزي ، والاستيعاب لابن عبد البر .