الكاتب: الأستاذ الدكتور مصطفي عبد الواحد
أزال الرسول صلي الله عليه وسلم الهم الأكبر من نفس جابر بن عبد الله حين ساعده في قضاء دينه .. لكنه صلي الله عليه وسلم لم يقف في عنايته بجابر .. وتثبته له .. عند هذا الحد .. بل نري في مواقف أخري أَمارات الصداقة والمحبة .. والتكريم والاحترام .. الذي يُقوِّي عزائمَ الشباب ، ويسرع بنضجهم واكتمالهم وإعدادهم لمواقف الحياة
ونرجع إلي الحديث الشريف ..، لنسمع حديث جابر عن مواقف الرسول صلي الله عليه وسلم معه :
روي الإِمام أحمد في مسنده عَنْ جَابِرٍ بْنِ عَبْدِ الله قَالَ : كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْ الْمَدِينَةِ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ فَأْذَنْ لِي فِي أَنْ أَتَعَجَّلَ إِلَى أَهْلِي قَالَ أَفَتَزَوَّجْتَ قَالَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا قَالَ قُلْتُ ثَيِّبًا قَالَ فَهَلَّا بِكْرًا تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ قَالَ قُلْتُ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ هَلَكَ وَتَرَكَ عَلَيَّ جَوَارِيَ فَكَرِهْتُ أَنْ أَضُمَّ إِلَيْهِنَّ مِثْلَهُنَّ فَقَالَ لَا تَأْتِ أَهْلَكَ طُرُوقًا قَالَ وَكُنْتُ عَلَى جَمَلٍ فَاعْتَلَّ قَالَ فَلَحِقَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا فِي آخِرِ النَّاسِ قَالَ فَقَالَ مَا لَكَ يَا جَابِرُ قَالَ قُلْتُ اعْتَلَّ بَعِيرِي قَالَ فَأَخَذَ بِذَنَبِهِ ثُمَّ زَجَرَهُ قَالَ فَمَا زِلْتُ إِنَّمَا أَنَا فِي أَوَّلِ النَّاسِ يَهُمُّنِي رَأْسُهُ فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْ الْمَدِينَةِ قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فَعَلَ الْجَمَلُ قُلْتُ هُوَ ذَا قَالَ فَبِعْنِيهِ قُلْتُ لَا بَلْ هُوَ لَكَ قَالَ بِعْنِيهِ قَالَ قُلْتُ هُوَ لَكَ قَالَ لَا قَدْ أَخَذْتُهُ بِأُوقِيَّةٍ ارْكَبْهُ فَإِذَا قَدِمْتَ فَأْتِنَا بِهِ قَالَ فَلَمَّا قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ جِئْتُ بِهِ فَقَالَ يَا بِلَالُ زِنْ لَهُ وُقِيَّةً وَزِدْهُ قِيرَاطًا قَالَ قُلْتُ هَذَا قِيرَاطٌ زَادَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُفَارِقُنِي أَبَدًا حَتَّى أَمُوتَ قَالَ فَجَعَلْتُهُ فِي كِيسٍ فَلَمْ يَزَلْ عِنْدِي حَتَّى جَاءَ أَهْلُ الشَّامِ يَوْمَ الْحَرَّةِ فَأَخَذُوهُ فِيمَا أَخَذُوا !!
والذي نود توكيده في هذا المقام : أن علينا أن نعيد تأمُّلَ نصوص الحديث الشريف ، واستخراج دلالتها الكلية ..، وإيضاح المنهاج التي تهدي إليها في شؤون الحياة .
إن حديث جابر رضي الله عنه .. يُساق في كتب الحديث والسيرة من جهة كونه معجزة للنبي صلي الله عليه وسلم .. وهذا ملحظٌ صحيح ..، ولكن .. أليس فيه إيضاحٌ للمنهج النبويِّ الكريم في رعاية الشباب .. وإيناسهم .. ومعونتهم ..، والرفق بهم .., واحترام آرائهم .., وبث الثقة في نفوسهم ؟!
بلي .. إن فيه ذلك .. وأكثر من ذلك .. وواجبنا أن نبذل قصارى الجهد في التأمل ، والاستنباط ، واستخراج الدلالاتِ التربويةِ الراشدةِ في معالجة مشكلات الشباب ..،
إن الرسول صلي الله عليه وسلم وهو هادي الأمة وقائدها وحامل مسؤليتها لا يجد غضاضةً .. في العناية بشباب المسلمين .. ومناقشته .. ومصاحبته في السفر …
وقد روي جابر مئات الأحاديث عن الرسول صلي الله عليه وسلم .. مما يدل علي مرافقته في أسفاره ومواقفه .. واطِّلاعه علي هديه وتوجيهه .. ولكن الرسول صلي الله عليه وسلم كان يُشْعر كلَّ واحد من أصحابه أنه قريب منه وأثير لديه .. وكان يسألهم عن أحوالهم .. ويتفقد أوضاع حياتهم ، ويتابع ما يطرأ عليهم من أحداث .. لقد سأل الرسول صلي الله عليه وسلم جابر بن عبد الله عمَّن تزوجها أبكر هي أم ثيب ؟ فلما أخبره جابر بأنها ثيب أراد صلي الله عليه وسلم أن يعرف سببَ اختيار هذا الشاب لزوجة ثيِّب ، وعدوله عن البكر المناسبة له .. وقال له 🙁 هَلَّا بِكْرًا تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ ) وفي هذا إقرار من النبي صلي الله عليه وسلم لحقِّ الشباب في الاستمتاع المشروع .. وفي الحياة وفق مقتضيات المرحلة التي يعيشها الشباب بلا تزمُّت ولا توقر ، ولا ابتئاس .
تحرج لا مبرر له :
ونستطرد أن في هذا المقام إلي الإِشارة إلي ما طرأ علي الفكر الإِسلاميِّ في العصور التالية .. علي أيدي بعض الزُّهاد الذين أرادوا أن يحملوا الناس علي طريقة واحدة من الخوف والحزن ، حتى كان منهم من يتحَّرج من كلمة ” اللعب ” حتى بالنسبة للأطفال .
روي ابن سعد في الطَّبقات الكبرى في ترجمته للربيع ابن خُثَيم – أحد التابعين – أن ابنته جاءته يوما وهو في مجلسه فقالت له : يا أبت أذهبُ فألعب ؟ فلم يجبها .. فأعادت عليه .. فقال لها اذهبي فقولي خيرًا أو اعملي خيرًا . فقال له بعض أصحابه : دعها تذهب فتلعب . فقال الربيع : لا أحب أن يكتب عليَّ أني أمرت باللَّعب !!
وهذه مبالغةٌ في التَّوقُّر .. لا يقرُّها منهج الإسلام ، فاللعب حقٌ للأطفال ينفِّسون فيه عن طاقاتهم ويستجيبون فيه لنوازعهم الفطرية .. وفي الكتاب العزيز في قصة يوسف عليه السلام أن إخوته قالوا لأبيهم يعقوب عليه السلام : (أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) { يوسف 12 } وقد كان النبي صلي الله عليه وسلم في المدينة يمرُّ علي غِلمان يلعبون فيسَلِّم عليهم . فكيف يكره المسلم التَّقيُّ أن ينطق بكلمة ” اللعب ” في مواجهة طفلة .. ويستبدل بها كلمة ” قولي خيرًا أو افعلي خيرًا ” ؟!.
إن من الواجب علينا , ونحن نبحث عن حُلُول مشكلات الشَّباب في التوجيه الإسلاميِّ ، ألا نتحرج من مواجهة أمثال هذه العبارة في كتب الزُّهاد وترجمات التابعين وتابعيهم .. بحيث يعرف الشاب المسلم أنه لا حرج عليه في اللعب .. بشرط أن يكون في إطار التوجيه الإسلاميِّ وقواعد التحليل والتحريم .. وها هو الرسول صلي الله عليه وسلم يقول لجابر بن عبد الله في شأن زواجه : ” هَلَّا بِكْرًا تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ ” !.
فهي الصورة الملائمة لحياة زوجين في مقتبل العمر .
ولكن جابر رضي الله عنه يكشف أسباب اختياره للثيب فقد كانت له أخوات صغيرات السن .. يحتجن إلي امرأة عاقلة ذات خبرة في الرِّعاية .. فلهذا ضحَّي جابر بمتطلبات مرحلته ..، ليوافق متطلبات أخواته .
ولم يعترض النبي صلي الله عليه وسلم علي تفكير جابر في هذه القضية .. بل أقرَّه عليه .. ثم كانت قصة الجمل دليلًّا علي الحبِّ الغامر الذي كان يملأ قلب النِّبي صلي الله عليه وسلم تجاه أصحابه .. وخاصَّةً هؤلاء الشباب النقيَّة قلوبهم البريئة مشاعرهم . وهو توجيه راشد للقادة والموجِّهين في المجتمع المسلم .. أن يُعَوِّلوا علي كسب محبَّة الشباب وصداقتهم وثقتهم ومودتهم ..، ليكون ذلك مفتاحًا لتوجيههم إلي التي هي أقوم .. والاعتماد علي الإِقناع بدلًا من الضغط والإكراه .