التواضع مع الناس ينطلق من حقيقة أنك لست أفضل منهم مهما كانت رتبتك أو علمك أو عبادتك..
فعلى سبيل المثال: الجلوس مع المساكين ومؤاكلتهم والتحدث معهم دليل على أنك لست تفضلهم بغناك.. ليس الدون من الملابس دليل على عدم أفضليتك على غيرك بملابسك.
مساعدتك لخادمك وجلوسه على مائدتك دليل كذلك على عدم شعورك بالأفضلية الذاتية عليه، وهكذا.. مع العلم بأن القيام بهذه الأفعال له أثر تربوي عظيم في تأكيد معنى استصغار الواحد منا لنفسه، وعدم شعوره بالأفضلية على الآخرين.
قال صلى الله عليه وسلم: ” إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد”[1].
من صور وأعمال التواضع مع الناس:
1 – خدمة أهل البيت:
كان صلى الله عليه وسلم في بيته في مهنة أهله[2]، يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويخدم نفسه، ويقُمُّ البيت، ويعقل البعير، ويعلف ناضحه، ويأكل مع الخادم، ويحمل بضاعته من السوق[3].
2 – الجلوس مع المساكين ومآكلتهم وخدمتهم:
كان دواد – عليه السلام – يدخل المسجد فينظر أغمط حلقة من بني إسرائيل يجلس إليهم، ثم يقول: مسكين بين ظهراني مساكين، وكذلك كان سليمان بن داود عليهما السلام إذا أصبح تصفح وجوه الأغنياء والأشراف حتى يجيئ إلى المساكين فيقعد معهم ويقول: يارب مسكين مع المساكين[4].
3 – عدم التميز بالخدمة من أجل رتبتك بين الناس:
لقد كان رسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم ينقل التراب مع أصحابه عند حفر الخندق في غزوة الأحزاب، وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخرج في يوم حار واضعًا رداءه على رأسه، فمر به غلام على حمار، فقال: يا غلام، احملني معك. فوثب الغلام عن الحمار، وقال: اركب يا أمير المؤمنين. قال: لا اركب وأركب خلفك.. تريد أن تحملني على المكان الوطئ، وتركب أنت على الموضع الخشن؟! فركب خلف الغلام[5].
وكان عمر بن عبد العزيز يكتب ذات ليلة شيئًا وعنده ضيف، فماد السراج ينطفئ، فقال الضيف: هل أقوم إلى المصباح فأصلحه؟ فقال: لا، ليس من الكرم استخدام الضيف، قال: هل أنبه الغلام؟ قال: لا، هي أول نومة نامها، فقام وجعل الدهن في المصباح، فقال الضيف: كيف قمت بنفسك يا أمير المؤمنين؟ فقال له: ذهبت وأنا عمر، ورجعت وأنا عمر[6].
4 – خفض الجناح للمؤمنين:
عن أبى رفاعة تميم بن أٍسيد رضي الله عنه قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، فقلت يا رسول الله: رجل غريب جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه؟ فأقبل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك خطبته حتى انتهى إليّ فأتى بكرسي، فقعد عليه وجعل يعلمني مما علمه الله، ثم أتى خطبته فأتم آخرها[7].
وعن أنس: إن كانت الأَمة من إماء المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت حتى يقضي حاجتها[8].
5 – إجابة دعوة الفقراء والضعفاء:
ولو على أقل شيء وإظهار السرور، وعدم التأفف من ذلك.
عن أنس رضي الله عنه قال: كان صلى الله عليه وسلم يردف خلفه، ويضع طعامه على الأرض، ويجيب دعوة المملوك ويركب الحمار[9].
6 – السعي في قضاء حوائج الناس، ومساعدتهم:
مر عمر بن الخطاب على امرأة وهي تعصد العصيدة، فقال: ليس هكذا يعصد، ثم أخذ المسوط، فقال هكذا، فأراها[10].
7 – عدم الافتخار على الناس بشيء:
قال يحيى بن معين: ما رأيت مثل أحمد بن حنبل، صحبناه خمسين سنة ما افتخر علينا بشيء مما كان فيه من الصلاح والخير[11].
8 – عدم الجلوس في الصدارة بين الناس:
بل بين عامتهم، وحيث ينتهي بك المكان.. قال عمر بن الخطاب: رأس التواضع أن تبدأ بالسلام على من لقيت من المسلمين، وأن ترضى بالدون من المجلس، وأن تكره أن تُذكَر بالبر والتقوى.
9 – علينا بتعود النظر إلى الجانب الإيجابي عند الآخرين:
لتستقر في نفوسنا حقيقة أن الناس جميعًا أفضل منا فإذا نظرنا إلى من هو
أصغر منا نقول: سبقناه بالذنوب، وإذا نظرنا إلى من هو أكبر منا نقول: سبقنا بالعمل الصالح، وإذا نظرنا إلى فاسق نقول: لعل في قلبه انكسارًا لله عز وجل ليس فينا فيجذبه الله نحوه، ويختم له بخير.. وإذا نظرنا إلى عامي نقول: مخمول الذكر، قريب من الإخلاص، وإذا نظرنا إلى عالم قلنا: يعلم عن الله ما لا نعلم، وإذا نظرنا إلى فقير قلنا: حسابه يوم القيامة قليل.. وهكذا مع الناس جميعًا.
كان عابد يتعبد في جبل، فأتى في النوم فقيل له: إيت فلان الإسكاف، فأساله أن يدعو لك، فأتاه فسأله عن عمله، فأخبره أن يصوم النهار ويتكسب، فيتصدق ببعضه، ويطعم عياله ببعضه، فرجع وهو يقول: إن هذا لحسن، فأما التفرغ لطاعة الله عز وجل فلا، فأتى في النوم، فقيل له: إيت الإسكاف، فاسأله، فقل له: ما هذا الصفار في وجهك؟ فأتاه فسأله، فقال له الإسكاف: ما رفع لي أحد من الناس إلا ظننت أنه سينجو وأهلك أنا، فقال له العابد: بهذه نجوت[12].
10 – لا تخبر أحدًا بحقيقتك وبخاصة إذا ما كنت صاحب منصب أو شهرة، واترك الناس يعاملونك حسب ما يرون:
كان سلمان الفارسي أميرًا بالمدائن، ومر برجل من عظمائها قد اشترى شيئًا، فحسب سلمان حمالًا، فقال: تعالى فاحمل هذا، فحمله سلمان، فجعل يتلقاه الناس ويقولون: أصلح الله الأمير، نحن نحمل عنك، فأبى أن يدفع إليهم، فقال الرجل في نفسه: ويحك إني لم أسخر إلا الأمير، فجعل يعتذر إليه ويقول: لم أعرفك أصلحك الله، فقال: انطلق، فذهب به إلى منزله، ثم قال: لا أسخر أحدًا أبدًا[13].
وقال الحسن: كنت مع ابن المبارك يومًا فأتينا على سقاية والناس يشربون منها، فدنا منها ليشرب، ولم يعرفه الناس، فزحموه ودفعوه، فلما خرج قال: ما العيش إلا هكذا.. حيث لم نعرف، ولم نوقر[14].
11 – عدم الاستنكاف عن ذكر ما ينقصنا: من أخطاء وقعنا فيها، أو فشل صادفنا، والتعود على التلقي من الجميع، وسؤال الآخرين عما نجهل أيًا كان وضعهم، كالأبناء في البيت، والمرؤوسين في العمل .. والتعود كذلك على قول: لا أدري، لما يخفى علينا من الأمور.
قال زاذان: خرج علينا علي بن أبى طالب رضي الله عنه يومًا وهو يمسح بطنه وهو ويقول: يا بردها على الكبد، سئلت عما لا أعلم فقلت: لا أعلم، والله أعلم[15].
12 – تقدير الآخرين وإشعارهم بقيمتهم:
وإبراز أعمالهم ونجاحاتهم، وبخاصة في غيابهم، وحسن الإنصات وعدم مقاطعة المتحدث، ولو كان حديثه معروفًا لدينا:
حدث رجل بحديث، فاعترضه رجل، فغضب عطاء بن أبى رباح وقال: ما هذه الأخلاق، ما هذه الطباع؟ والله إن الرجل ليحدث بالحديث لأنا أعلم به منه، ولعسى أن يكون سمعه مني، فأنصت إليه وأريه كأني لم أسمعه قبل ذلك[16].
13 – مؤاخاة المؤمنين أيًا كانت رتبتهم وقبول أعذار المعتذرين وإن كانت واهية، وحسن الاستماع إلى نصيحة الناصحين وعدم ردها.
وخلاصة القول: التواضع محله القلب، ولابد من تكلف الأعمال التي تدل عليه ليزداد رسوخه في القلب.. هذه الأعمال يجمعها مفهوم رؤية المرء لنفسه بعين النقص، ولربه بالإجلال والتعظيم، وللناس بالأفضلية.
ويؤكد ابن حزم على هذه الوسيلة في علاج العُجب فيقول: كانت فيَّ عيوب.. ومنها عجب شديد، فناظر عقلي نفسي بما يعرفه من عيوبها، حتى ذهب كله ولم يبق والحمد لله أثر، بل كلفت نفسي احتقار قدرها جملة، واستعمال التواضع[17].
[1] رواه مسلم (4/2198، رقم 2865). [2] رواه البخاري ( 2 / 129 و9 / 418 ) عن عائشة.. مهنة: خدمة، يقم: يكنس، ناضحه: الجمل الذي يستقى عليه الماء. [3] الشفا للقاضي عياض 1/107. [4] التواضع والخمول لابن أبي الدنيا ص 148. [5] صلاح الأمة في علو الهمة لسيد العفاني 5/434 – مؤسسة الرسالة – بيروت. [6] تنبيه المغتربين ص 841. [7] رواه مسلم (3/15 برقم 2062). [8] أخرجه: البخاري ( 8/68 برقم 6247 )، ومسلم (7/6 برقم 2168 ). [9] صحيح، رواه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، وأورده الألباني في السلسلة الصحيحة (2525). [10] صلاح الأمة في علو الهمة 5 /433. [11] المصدر السابق 5/442. [12] الرعاية لحقوق الله ص534. [13] تنبيه المغتربين ص142. [14] من تواضع لله رفعه لعبد الملك القاسم ص 62. [15] أخلاق العلماء ص 110. [16] تقرير ميداني لمحمد أحمد الراشد ص 30 دار المنطلق – الإمارات. [17] الأخلاق والسير لابن حزم ص 108 – دار ابن حزم – بيروت.