الحياة الدنيوية ما هي إلا مشهد عظيم تتجلى فيه مظاهر صفات الله عز وجل ﴿ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [فصلت : 53] .
والهدف العظيم من وجود المخلوقات بهذه الكثرة على اختلاف أشكالها وألوانها وأوصافها هو الدلالة على الله ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة : 164].
والهدف كذلك من تقلبات أحداث الحياة من سرَّاء وضرَّاء ، وعطاء ومنع ، وصحة ومرض ، إلخ ؛ هو إظهار قدرته سبحانه وقيُّوميته ، وعزته ، ورحمته ، وحكمته … وسائر صفاته .
والإنسان هو المخاطب بهذا كله ، وعليه أن يتعرف على ربه من خلال هذه المشاهد والأحداث التي تحدث أمامه ، ويُشاهدها دومًا ﴿ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ﴾ [الأنعام : 65] .
لكن ظلمات الهوى والانكفاء نحو طين الأرض قد تحُول بينه وبين الرؤية الصحيحة والتحليل الحقيقي لهذه المشاهد والأحداث ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ﴾ [يوسف : 105] .
فإذا ما استيقظ الإيمان ؛ فإنه في البداية يكون بمثابة بصيص من النور يظهر في القلب يجعله ينتبه – بعض الشيء – لِما يجري حوله ، وبخاصة في الآيات الكبيرة التي يرسلها الله عز وجل .
فإذا ما نما الإيمان أكثر ، قوي نور البصيرة أكثر لتزداد الرؤية العامة وضوحًا ، ويزداد ربط الأحداث والمشاهد بالله عز وجل .
.. نعم ، من المتوقع ألا تكون هذه الرؤية حاضرة في كل الأوقات ، بل ستكون نسبتها محدودة ، ولكنها ستزداد مساحتها – بإذن الله – بمرور الوقت وازدياد النمو الإيماني لتسيطر على فكر العبد ومشاعره ، فتجعله يعيش بكيانه في حقيقة التوحيد ، فيَعْبُر من المشاهدة إلى شهود صفات الله عز وجل وهي تعمل ، فيربط كل ما يحدث أمامه وكل ما يشاهده بالله عز وجل ﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ﴾ [الواقعة : 63 ، 64] .
﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾ [الأنفال : 17] .
وكان صلى الله عليه وسلم يعيش بكيانه كله في هذه الحقيقة .. انظر إليه وهو يقول لأصحابه: « إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ، ولكنهما آيتان من آيات الله ، يخوِّف بهما عباده ، فإذا رأيتم ذلك فصلُّوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم » [1] .
وكان يقول : « إنما أنا مبلغ والله يهدي ، وإنما أنا قاسم ، والله يُعطي » [2] .
وعندما مات ابن لزينب ابنته قال : « قولوا لها : لله ما أخذ ولله ما أعطى … » [3] .
ولقد كان الصحابة كذلك يعيشون في ظلال هذه الحقيقة ، فهذا عبد الله بن عتيك بعد أن قتل أبا رافع اليهودي في حصن خيبر يعود مسرعًا إلى أصحابه يُبشرهم بقتله ويستحثهم على سرعة مغادرة المكان ، ومع هذا الوضع المتوتر إلا أنه لم ينس تلك الحقيقة فقال لهم : النجاء ، فقد قتل الله أبا رافع [4] .
وهذا الطفيل بن عمرو الدوسي يقُصّ على من حوله قصة إسلامه فيقول : وأبى الله إلا أن يُسمعني بعض قوله [5]..
وهذا سعد بن أبي وقاص يُرسل رسالة إلى عمر بن الخطاب يُبشره فيها بنصر القادسية فيقول فيها : ولقد استشهد « الله » فلانًا وفلانًا [6] .
مع المنع والعطاء :
ومع انعكاس النمو الإيماني على وضوح الرؤية لآيات الله المختلفة ، فإنه أيضًا ينعكس على طريقة استقبال العبد لها ، وتعامله معها ، فتجده يربط النعم التي تَرِد عليه بالله المنعم ، ويفرح بفضله – سبحانه – ويستكثر على نفسه هذا الفضل ، ومن ثَمَّ تهيج مشاعر الامتنان لله عز وجل في قلبه ليعيش حالة القلب الشاكر .
.. وفي أوقات المحن والبلايا تجده – وإن تضايق قليلًا في البداية – إلَّا أنه سرعان ما يعود به إيمانه إلى الصبر وعدم الجزع أو التَسخُّط ، بل ومن المتوقع – مع استمرار النمو الإيماني – أن يعيش المرء في حالة الرضا عن الله ، فيسكن قلبه مهما تقلَّبت به الأحداث .
وباستمرار النمو الإيماني يزداد فهم العبد لأحداث الحياة وتقلباتها وبخاصة المؤلمة منها لتتحول كلها في نظره إلى عطاء من الله عز وجل ﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا ﴾ [التوبة : 51].
ومما يلزم التنويه إليه أنه مهما ارتقى الإيمان في قلب العبد إلا أن بشريته – وما فيها من ضعف – لن تُفارقه ، لذلك فمن المتوقع أن تَزِلّ الأقدام في بعض الأمور القليلة والنادرة ، لكن داعي الإيمان سُرعان ما يدفع صاحبه للعودة السريعة والتوبة النصوح ، واستئناف السير إلى الله ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف : 201] .
[1] متفق عليه : أخرجه البخاري (1 / 353 ، برقم 993 ) ، ومسلم (3 / 35 ، برقم 2153) . [2] حديث صحيح : أخرجه أحمد (28 / 133، برقم 16936) ، و الطبراني في المعجم الكبير (19/389 ، رقم 914) ، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1628) . [3] جزء من حديث أخرجه البخاري (6 / 2435 ، برقم 6228) . [4] جزء من حديث أخرجه البخاري في صحيحه ج 4/ ص 1484 حديث رقم: 3813 ، انظر السيرة النبوية لعلي الصلَّابي 2/418 . [5] معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني- (11 / 175، برقم 3500) ، السيرة النبوية لابن هشام (2 / 226) . [6] البداية والنهاية لابن كثير .