الكاتب: أبو الحسن الندوي
حكم الله في فترة الوحي ونعمه على رسوله العظيم
﴿ وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴾ [الضحى : 1 – 11].
وكل شوق – كما قال الشيخ محمد عبدة – يصحبه قلق ، وكل قلق يشوبه خوف.
وفي ذلك حكمة بالغة وأصل عظيم من أصول التربية وتشويق لتلقي العلم وإعداد له . وفي الحديث: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة ( أي يعظنا غِبًّا )، كراهة السآمة علينا. وإلى هذه الحكمة أشار الله سبحانه وتعالى في قوله: ﴿ وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ﴾ [الإسراء : 106].
﴿ وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى ﴾ [الضحى : 4] أي: إن الكرَّة من الوحي خير لك من الأولى، فسيكمل بها الدين، وأين بدء الوحي من عوده؟ وأين الإجمال من التفصيل؟ حتى أعلن : ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة : 3].
﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾ [الضحى : 5]: في الدنيا والآخرة، وقد أعطاه فرضي. فقد أكمل له الدين، ولم يكمل لأحد قبله من النبيين، وجعل له لسان صدق في الآخرين، وفتح له الفتح المبين، وأنجز له في حياته، كل ما وعده، وقرَّ عينه، وأنعم باله برؤية ألوف من أتباعه الموحدين الراسخين وعباد الله الصالحين، والجنود المجندة من المجاهدين، ولهذا لمَّا قال له أصحابه في قيامه بالليل حتى كانت تتورم رجلاه: ألم يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: « أفلا أكون؟ ».
﴿ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى ﴾، هذه المنة أكبر الثلاث التي منَّ الله سبحانه بها على النبي صلى الله، إذ المنتان تتعلقان بالجسم والدنيا، وهذه تتعلق بالدين والروح، بل العالم، لأن هداتيه كانت موقوفه على هدايته كانت موقوفة على هدايته، كنوز العالم على طلوع الشمس كما قال: ﴿ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى : 52].
﴿ وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى ﴾ الظاهر أنه على ظاهره فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم فقيرا، لم يترك له إلا ناقة وجارية ، فوهبه الله من الملك والقوة والأصحاب الذين كانوا يفدونه بأنفسهم ونفائسهم ومهجتهم ما لم يرزق نبي قبله ولا يرزق نبي قبله ولا يرزق رجل بعده.
والمقصود أن من آواك في اليتيم، وهداك من الضلال، وأغناك من الفقر: لا يتركك البتة في مستقبل الأمر ، والعاقل يغرس الغرس ويسقيه ويخدمه، ويسهر عليه ويعنى به، فإذا آن أن يثمر، ويؤتي أكله لا يهمله. فلهذا اليوم رباه الله وغذاه، وأغناه وآواه، وكان ضالا فهداه ، فكيف اليوم ينساه ؟!
﴿ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ﴾ ما أجمل موقعه بعد قوله : ﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى﴾ ، فمن ذاق مرارة اليتم بنفسه، فأخلق به أن إذا كان ذا شعور ومروءة أن يستشعرها في غيره، فاليتيم أعرف خلق الله بحال اليتيم، وأعرف بما يذوقه ويتحمله، فإنه قد اجتاز هذه المرحلة أيضا ، فأراد الله سبحانه أن لا ينسى يتمه مهما طال عهده به ، وأن يستحضره عند رؤية اليتيم.
ولعله لهذه الحكمة وُلد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتيما ونشأ يتيما ورعى الغنم في بني سعد، ليكون للأيتام والبؤساء أبا شقيقا ووالدا برًّا ، ويرق قلبه ، وتنشأ فيه عاطفة الشفقة والحنان ، شأن الأيتام.
﴿ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ) فقد كنت سائلا ولم ينهرك الله سبحانه ، وقد شق عليك تأخير الوحي وتأخير الإجابة دون نَهْرٍ ولا يأس، فاستشعر بمثل هذا في غيرك أيضا.
﴿ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴾ فمن عادة البخلاء أنهم يكتمون ما آتاهم الله ليكون لهم عذر وسلامة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للذي رأى عليه ثيابا رثَّة وقد علم غناه: « إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده ».