كان على أحد الدعاة أن يقوم بإلقاء محاضرة عن الأخُوة والحب في الله وأهميتهما الشديدة بالنسبة لأصحاب الدعوات، وقبل حلول موعد المحاضرة بدأ هذا الداعية في التفكير في محتوى المحاضرة، هل سيفعل مثلما فعل في المرات السابقة فيقوم بجمع الآيات والأحاديث الدالة على فضل الأخوة في الله وحقوقها وواجباتها مع مزجها ببعض القصص والنماذج المأثورة عن تاريخ السلف، وماضي رجال الدعوة؟!
في هذه المرة لم يجد في نفسه أي رغبة في تكرار ما فعله سابقًا، وبخاصةٍ أن المحاضرة ستُلقى على أُناس يعرفون هذا الكلام- بل يحفظونه- جيدًا، ورغم هذه المعرفة فإن العلاقات الأخوية بينهم ضعيفة يكسوها الجفاء والفتور.
ظل الداعية يُفكِّر ويُفكِّر، ويستعين بالله حتى هُدِي إلى فكرةٍ جديدة، فأسرَّها في نفسه ولم يُبدِها لأحد، وقام بتجهيز ما يتطلبه لتنفيذها، وانطلق إلى المحاضرة.
جلس هذا الداعية في المكان المخصص له، وبدأ حديثه بالثناء على الله، والصلاة على رسول الله، ثم أخرج من جيبه (مِسبحة) طويلة، وسأل الحاضرين عن اسمها، فأجابوه، وظل يحركها يمينًا ويسارًا أمام أعينهم طالبًا منهم تركيز أنظارهم إليها جيدًا.
وظل صامتًا للحظات، ثم أخرج من جيبه (مِقصًّا)، وعند منتصف المِسبحة قام بقص الخيط الذي يجمع حباتها فانفرطت الحبات وتناثرت في أرجاء المكان وتحت أقدام الحاضرين، والجميع في ذهول من ذلك المنظر المثير.
في هذه اللحظات قطع الداعية صمته قائلاً لجُلَسائه: إن صمام الأمان لهذه الدعوة- بعد قوة الصلة بالله- هو رابطة الأخوة، فالأخوة هي الحبل الذي ينتظم قلوب أبناء الدعوة، ويربط بعضها ببعض، فإذا ما وهن ذلك الحبل أو انقطع تفرَّقت القلوب وابتعدت، فيكون لذلك أسوأ الأثر على الدعوة.
ساد الصمت المكان، واستشعر الحاضرون الخطر، وفهموا الرسالة جيدًا، ثم انكبوا يجمعون حبات المِسبحة ليعيدوا وصلها من جديد بخيط متين، وانطلقوا يعانق بعضهم بعضًا ويتصافحون في حب وود، العيون دامعة، والقلوب خافقة، والصدور سليمة صافية، وبينما هم في هذه الحال الإيمانية إذ بصوت رخيم يردد قوله تعالى: ﴿إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ (الأنفال: من الآية 73).
فانطلقت ألسنتهم قائلة: سنفعل، سنفعل.. ما السبب؟؟!! وسط هذه الأجواء المُفعمة بالمشاعر الصادقة، ارتفع صوت من بين الحاضرين يقول متسائلاً: ولكن ما السبب في ضعف ما بيننا من أُخُوَّة؟ ألم نكن في الماضي أحسن حالاً منا اليوم؟ كنا نمارس واجبات الأخوة بكل تلقائية، نتزاور ونتهادى، ويسعى كل منا في خدمة أخيه، يسأل عن أحواله، ويتفقد أموره، ولا يهدأ له بال حتى يقضي حاجته، ويذلل له- بإذن الله- أي عقبة تواجهه؟.
وساد الصمت من جديد، وبدا الحاضرون وكأنهم يتذكرون ماضي أُخُوَّتهم الجميل، ويتفكرون في ذلك التساؤل: لماذا لم تعُد الأخوة بيننا كما كانت؟! ثم انطلقت الألسنة بإجابات مختلفة؛ فمن قائل إن السبب هو مشاغل الحياة الكثيرة، ومن قائل بأن الحياة أصبحت مُعقدة أكثر من ذي قبل، ومن قائل بأن الواجبات أكثر من الأوقات.
القول الفصل:
استمع المحاضر إلى كل هذه الآراء ثم قال: لو كانت هذه هي الأسباب الحقيقية فمعنى ذلك أنه لا أمل في عودة روابط الأخوة الوثيقة من جديد، وأن المِسبحة ستنقطع حتمًا، إن عاجلاً أو آجلاً، ولكن، لو عدنا إلى الكتاب والسنة سنجد أن الأخوة مرتبطةٌ ارتباطًا وثيقًا بمعنى لم يذكره أحدكم وهو”الإيمان”، يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ (الحجرات: من الآية 10)، ويقول ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ (التوبة: من الآية 71)، ولنتذكر جميعًا أن أول ما فعله رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعد هجرته إلى المدينة: بناء المسجد الذي هو رمزٌ للإيمان، ثم أتبع ذلك بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار؛ فالأخوة قرينة الإيمان، ورافد من روافده، فإن ارتفع الإيمان ارتفعت وإن انخفض انخفضت، وكما أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، كذلك الأخوة تعلو نسبتها في القلوب كلما قمنا بحقوقها، وتنخفض تلك النسبة إن نحن أهملنا رعايتها وفعلنا ما يضادها.
فالحل إذن ينطلق من إيقاظ الإيمان المُخَدَّر في قلوبنا والذي إذا استيقظ أعاد مشاعر الأخوة إلى الحياة وغذاها ونمَّاها، أطرق الحاضرون رؤوسهم، ولسان حالهم يقول: صدقت، فليست الأخوة فقط هي التي وهنت بسبب ضعف الإيمان، فهناك مظاهر كثيرة تفشَّت بيننا بسبب هذا الضعف، وإن لم نسارع إلى تجديد الإيمان وإيقاظه في قلوبنا فستتضخم تلك المظاهر لتصبح أمراضًا مزمنةً يصعب علاجها.