الله عز وجل هو رب كل شيء ومليكه، ومدبر أمره.. هذه هي الحقيقة التي يقوم عليها الوجود كله.
أما الإنسان- أي إنسان- فهو مخلوق من مخلوقات الله، حياته كلها متعلقة بإمدادات ربه إليه، ولو تركه لحظة واحدة لتوقف فيه كل شيء….
والإنسان إذ يعيش في الحياة بفضل إمدادات ربه؛ فإنه- يقينا- لا يقدر على فعل أي شيء- مهما صغر- إلا إذا أذن له الله بفعله، وفتح له خزائنه.
لذلك كان من الضروري أن نُقَدِّم المشيئة الإلهية عند العزم على فعل أي شيء.
نُقَدِّمها ونحن على يقين بأن الأمر كله لله ﴿وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ` إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ﴾ [الكهف: 23-24].
ولئن كان الله عز وجل قد خاطب رسوله محمد صلى الله عليه وسلم- وهو سيد البشر- قائلاً: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ﴾ [آل عمران: 128]، فماذا عن بقية البشر؟؟
هل يمكن أن يكون لأحد منهم صلاحية أو قوة ذاتية في هذا الكون؟! ﴿يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأمْرَ كُلَّهُ للهِ﴾ [آل عمران: 154].
فالله عز وجل هو خالق كل شيء، وهو ربه يمده بما يحتاجه، وما الإنسان إلا مخلوق صغير ضئيل في هذا الكون الرحيب، لا يمكنه- بمفرده- أن يُنفذ إرادته، فإرادته لا تنفذ إلا من خلال موافقة الله على إنفاذها، ومن ثمّ إمداده بما يظهرها.. من هنا ندرك بعضا من معاني قوله تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ﴾[الإنسان: 30].
وقوله: ﴿وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ﴾ [المدثر: 56].
فلو حشد المرء ما يمكن حشده من أسباب فلن يصل إلى النتيجة المتوقعة لها إلا إذا أَذِن الله وفتح له خزائن ذلك ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ﴾ [الأنعام: 111].
وعندما قام نبي الله يوسف- عليه السلام- بتدبر أمر الحيلة التي من خلالها كان ينوي استبقاء أخيه معه، ونجح في ذلك، نجد التعقيب القرآني يُذكِّر بحقيقة الأمر وبأن ما حدث فإنما حدث بإذن الله ومشيئته وإمداده حتى يرسخ المعنى في الأذهان ﴿فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ﴾ [يوسف: 76].
العجز والفقر الذاتي:
والمتأمل لسير الرسل والأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- وهم أكمل البشر، نجد أنهم كانوا يعيشون في حقيقة عجزهم وفقرهم الذاتي والمطلق لله عز وجل، فهذا شعيب- عليه السلام- يقر بها عندما يخيره قومه بين العودة إلى ملتهم أو إخراجه ومن معه من قريتهم، فيرد عليهم قائلاً: ﴿أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ `قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الأعراف: 88، 89].
وبمثل هذا أجاب إبراهيم- عليه السلام- قومه في حواره معهم: ﴿وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ﴾
[الأنعام: 80].وكذلك كان حال موسى- عليه السلام- عندما أخذته ومن معه الرجفة ﴿وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ﴾ [الأعراف: 155].
وكان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم يعيش بكيانه كلّه في هذه الحقيقة.. فهذا عبد الله بن حوالة الأزدي رضي الله عنه يقول: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لنغنم على أقدامنا فرجعنا فلم نغنم شيئاً، وعرف الجهد في وجوهنا، فقام فينا فقال:
«اللهم لا تكلهم إلىَّ فأضعف عنهم، ولا تكلهم إلى أنفسهم فيعجزوا عنها، ولا تكلهم إلى الناس فيستأثروا عليهم»([1]).
أين حرية الاختيار؟!
فإن قلت: وأين حرية الاختيار؟ وأين الإرادة الحرة التي أتاحها الله للإنسان والتي على أساسها يترتب الثواب والعقاب؟!
.. نعم، أتاح الله عز وجل للإنسان حرية الاختيار(*)، إلا أن الذي يترجم ويُفعِّل اختياراته هو الله عز وجل ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ [الأنعام: 102]، بمعني أن العبد له أن يختار ما يريد فعله بإرادته الحرة، ولكن الذي يمكنه من ترجمة هذا الاختيار إلى أرض الواقع هو الله عز وجل.
كيف نستجلب الإمداد الإلهي؟
الإجابة عن هذا السؤال أجملها الحديث القدسي: «يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم. يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم. يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم»([2]).
(فاستهدوني .. فاستكسوني.. فاستطعموني) كلها كلمات تدل على تمكن الرغبة ممن يطلبها.
ومما تجدر الإشارة إليه أن التاء في هذه الكلمات -كما يقول أهل اللغة- للطلب، بمعني أنكم إذا أردتم الهداية أو الطعام أو الكسوة فاطلبوها من الله، فعلى قدر عزمكم وحرصكم على تحصيلها يكون إمداد ربكم إليكم.. فالإمداد على قدر الاستعداد.
فحجر الزاوية -إذن- في قضية الإمداد هو العزم والتصميم، لذلك أوضح القرآن أن أهم أسباب مخالفة أبينا آدم- عليه السلام- وأكله من الشجرة التي نُهي عنها هو قلة عزمه في ذلك﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ [طه: 115].