هذا العنوان لكتاب لم أقرأه ، ولم أر حتى غلافه ، سعيت للحصول على نسخة منه دون فائدة ، عاودت البحث عنه عندما تعاطفت مع مخطئ وبذلت في ذلك جهداً مضاعفاً غير أني لم أهتدِ لذلك سبيلا ، بحثت عن الكتاب كي أجد أسلوباً شرعياً حكيماً أصحح به الخطأ وأحافظ به على المخطئ ، فلمَّا لم أجد بُغيتي قررت البحث عن هذا العنوان في الكتب والمراجع ذات
الصلة ، والأبواب القريبة من المعنى في كتب الفقه والحديث.
وهنالك وجدت معاني جميلة ، وأساليب عظيمة رأيت أنها أكثر حكمة من غيرها وأقرب للصواب وتحقيق للهدف من سواها ، ورغم أن كلامي هنا يُفترض أنه موجه للقائم بالإصلاح والساعي في تصويب المخطئ ، إلا أنني وجدت أن حديثاً ينبغي أن يوجه للمخطئ أولاً ، يتم من خلاله ضبط أجهزة الاستقبال لديه حتى تكون استجابته سريعة ، وتقبله للتوجيه أفضل ، من هنا وجدت أن أقسم حديثي إلى جزءين الأول أخاطب فيه المخطئ والثاني للقائم بالتوجيه والتصحيح.
فكيف نتعامل مع المخطئ إذا ارتكب الخطأ ، ونوجهه كي نُصحح مساره ، وبداية ينبغي على كلاٍ من المخطئ والقائم بالتوجيه أن يستقبلا كلامي على أنه لكليهما فما من أحدنا إلا وهو مخطئ في أمر ما وقائم بالتوجيه في أمر آخر.
فالخطأ في حياة الناس أمر وارد الحدوث بل لابد من حدوثه ، ولا يستطيع إنسان أن يدعي العصمة مهما كان شأنه إلا الأنبياء والمرسلون” كل بن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون”[1]
والخطأ الحقيقي هو تمادي المخطئ في خطئه ، وعدم اعترافه به ، وإصراره عليه ، وجداله عنه بالباطل ، واعتبار الرجوع عنه نقيصة.
أولا : السلوك الإيجابي من المخطئ
وهناك أمور يجب على المخطئ أن يسلكها ، ويُلزم نفسه بها ، بل ويجتهد في تنفيذها متى وقع في خطأ ، هذه الأمور تُعتبر بمثابة السلوك الإيجابي الذي ينبغي عليه أن ينهجه ، ويتعاطى مع الآخرين بموجبه ، وإليك أخي القارئ بعضاً من بنود هذا المسلك الإيجابي.
(1)ألّا يُصر على الخطأ
والتصرف الإيجابي الأول الذي ينبغي على المخطئ أن ينهجه هو أن يعترف بخطئه متى وضح له ذلك، بل لابد وأن ينتبه إلى خطورة الإصرار على خطأ ارتكبه أو باطل وقع فيه.
فكما أن اعترافه بخطئه وعدم إصراره عليه يُدخله في دائرة المؤمنين الذين وصفهم الله تعالى في قوله “ولم يُصروا على ما فعلوا وهم يعلمون”
فإن المكابرة في ذلك قد تؤدي به إلى الوقوع في دائرة التهديد الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال “ويل للمصرين على ما فعلوا وهم يعلمون”[2]
(2)ألا تأخذه العزة بالإثم.
المخطئ قد يدفعه تقديسه لنفسه وتعظيمه لها إلى إنكاره للخطأ الذي ارتكبه وإصراره عليه ، وقد يكون ذلك معاندة للغير أو حتى لا تسوء صورته أمام الآخرين ، لذا فإن من السلوك الإيجابي للمخطئ أن يعود للحق متى تبين له لأن عدم الرجوع للحق يُعد نوع من الكبر المنهي عنه ، والدخول في طائلة ممن قال الله عنهم “وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم “
(3)ألا يُبرر الخطأ
والمخطئ يجب ألا يسعى إلى تبرير خطئه ، أو البحث عن الأعذار التي يقدمها لمن حوله لتحسين صورته التي اهتزت نتيجة ذلك الخطأ.
فالمخطئ قد يستسهل أمر التبرير وتقديم الأعذار ، خاصة إذا أوتي جدلاً ولحناً في القول ، وقدرة على البيان والإقناع “وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً”
ولقد كان عدم التبرير من كعب بن مالك رضي الله عنه لِمَا بدر منه في غزوة تبوك وتخلفه عن ركب المجاهدين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم امتلاكه لهذه المهارة – مهارة الجدل والمحاورة- ، لقد كان عدم التبرير سبباً في تبرئته وتوبة الله عليه.
(4)أن يُسرع بالعودة
على المخطئ أن يحذر من المراوغة والتسويف ، بل عليه أن يُسارع ، ويستجيب للناصحين من حوله ويعود إلى الحق ، فلا يُنكر أحد أن جيل الصحابة هو خير الأجيال على الإطلاق”خير الناس قرني ثم الثاني ثم الثالث ثم يجيء أقوام لا خير فيهم “[3]
ومع ذلك فإنهم لم يكونوا معصومين ولم يدّعوا العصمة بل إنهم إذا أخطأوا سارعوا بالعودة والإنابة ، وما موقف أبا ذر إلا دليل على ذلك حينما عاير أخاه بلال وقال له يا ابن السوداء فشكاه بلال لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له “يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية”[4]
فما كان من أبي ذر إلا أن وضع خده على الأرض طالباً من أخيه بلال أن يطأ خده بقدمه أو أن يعفو عنه.
(5)ألا يعتد برأيه
يجب على المخطئ ألا يُكابر أو يستمر في خطئه متى وضحت له الصورة كاملة ، ومتى ظهر له الحق جلياً في آراء غيره ، وعليه ألا يُقدس نفسه فيدعي لها العصمة من الخطأ ، أو رجاحة العقل وسدادة الفكر ، ورشد القول والفعل دون الآخرين ، فلا يستخف بقول الناصحين ، ولا يُسفه أراء المحيطين ، ولا يرمي بسهام نقده على الآخرين حتى يصرف أبصارهم عن خطئه،بل عليه أن يرفع شعار “قولي صواب يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ يحتمل الصواب”
(6)أن يعتذر عن خطئه
على المخطئ أن يعلم أن الاعتذار ينفي عن صاحبه التعالي والكبر ويمنحه المصداقية والثقة في قلوب الآخرين ، كما أن الاعتذار يُزيل الأحقاد ويقضي على الحسد ويدفع عن صاحبه سوء الظن به ، أو الارتياب في تصرفاته.
والمخطئ يجب أن يحرص على تقديم الاعتذار ويُقدمه متى وضح له خطأه ، فلا يتردد من تقديم عبارة الأسف(أنا آسف) متى كان الخطأ في حق الغير ، والتوبة والإنابة والاستغفار إذا كان خطأه في حق مولاه.
والمخطئ يجب ألا يعتبر تقديمه للاعتذار نقيصة يجب عليه التهرب منها ، أو عيب يُستحى منه ، بل يعتبر الاعتذار مصدراً لزيادة الثقة بينه وبين الآخرين ، وعنواناً للقوة والجرأة في الحق.
وكي تطيب نفسك أخي المخطئ فلا تتأفف أو تستنكف عن تقديم الاعتذار، وإليك بعضاً من المواقف التي اعتذر فيها من هم خير مني ومنك.
آدم عليه السلام : اعترف بذنبه وسارع بالعودة والرجوع وطلب المغفرة (وهو نوع من الاعتذار) لمَّا وضح خطأه وبان، ولم يُحاول التبرير “قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين”
موسى عليه السلام : وكز الرجل بعصاه فقتله ، فلم يبرر أيضاً ما وقع منه ولم يراوغ ، بل سارع بالاعتراف وتقديم الاعتذار”هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين. قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم”
بلقيس وامرأة العزيز : قالت بلقيس “رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين” وقالت امرأة العزيز “قالت امرأت العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين. ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين”
فيالها من قوة تحلين بها ، وجرأة في الحق يعجز أكابر الرجال في زمانا أن يأتوا بمثلها، بيد أن الوثنية كانت أفضل حالاً في بعض أخلاقها من بعض البيئات اليوم التي أفرزت قطيعاً من المنافقين والجبناء والمتعالين الذين لا يملكون شجاعة الاعتراف بالخطأ.
(7)أن يتحمل نتائج خطئه
وعلى المخطئ أن يتحمل نتيجة خطئه وعواقبه ، وأن يتقبل نتائج تصرفاته ، وأن يواجهها بكل شجاعة وأدب ، فقد يتعرض لبعض الملامة والعتاب من الآخرين ، وقد يُعاقب من ولي الأمر بالتعذير الذي يراه مناسباً.
بل على المخطئ أن يُبادر ويسارع لتطهير نفسه بتصحيح ما أفسده ، لا أن ينتظر حتى تُفرض عليه العقوبة ، يحضرني الآن عدة مواقف في هذا المعنى :
موقف ماعز والغامدية: ، أما ماعز فقد جاء طواعية من نفسه يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُطهره من الزنا.
” جاء ماعز بن مالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله طهرني فقال ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه . فقال فرجع غير بعيد ثم جاء فقال يا رسول الله طهرني . فقال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك حتى إذا كانت الرابعة قاله له رسول الله صلى الله عليه وسلم فيم أطهرك ؟ قال من الزنا “[5]
انظر إلى العقاب إنه الرجم حتى الموت ، لم يكن الخوف من الموت سبباً في تأخير الاعتراف بالخطأ وطلب التطهير ، ولكنها التربية الإيمانية الصحيحة
وكذلك فعلت الغامدية.
نبي الله يونس : قال علماء التفسير بعث الله يونس عليه السلام إلى أهل نينوى من أرض الموصل ، فدعاهم إلى الله عز وجل ، وتمردوا على كفرهم وعنادهم فلما طال ذلك عليه من أمرهم خرج من بين أظهرهم ، ووعدهم حلول العذاب بهم بعد العذاب.
فلما رأى قوم يونس العذاب قريباً منهم تابوا وعادوا إلى ربهم فغفر لهم الله وتاب عليهم ، ولما كان خروج يونس عليه السلام دون إذن من الله ، كان لابد من لفت الانتباه فعن أبي هريرة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لَمَّا أَرَادَ اللهُ حَبْسَ يُونُسَ فِي بَطْنِ الحُوتِ ، أَوْحَى اللهُ إِلَى الحُوتِ: أَنْ خُذْهُ وَلا تَخْدِشْ لَهُ لَحْما وَلا تَكْسِرْ عَظْما، فَأَخَذهُ ، ثُمّ هَوَى بِهِ إلى مسْكَنِهِ مِنَ البَحْرِ ، فَلَمَّا انْتَهَى بِهِ إلى أَسْفَلِ البَحْرِ ، سَمِعَ يُونُسُ حِسًّا ، فَقَالَ فِي نَفْسِهِ: مَا هَذَا؟ قالَ: فَأَوْحَى اللهُ إِليْهِ وَهُوَ فِي بَطْنِ الحُوتِ: إِنَّ هَذَا تَسْبِيحُ دَوَابِّ البَحْرِ ، قَالَ: فَسَبَّحَ وَهُوَ فِي بَطْنِ الحُوتِ ، فَسَمِعَتِ المَلائِكَةُ تَسْبِيحَهُ ، فَقَالُوا: يَا ربَنّا إِنَّا نَسْمَعُ صَوْتا ضَعِيفا بِأَرْضِ غَرِيبَهٍ؟ قَالَ: ذَاكَ عَبْدِي يُونُسُ ، عَصَانِي فَحَبَسْتُه فِي بَطْنِ الحُوتِ فِي البَحْرِ ، قَالُوا: العَبْد الصَالِحُ الَّذِي كانَ يَصْعَدُ إِلَيْكَ مِنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عَمَلٌ صَالِحٌ؟ قَالَ: نَعَم ْ، قَالَ: فَشَفَعُوا لَهُ عِنْدَ ذَلكَ ، فَأَمَرَ الحُوتَ فَقَذَفَه فِي السَّاحِلِ ، كما قالَ اللهُ تَبَارَك َ وَتَعالى: وَهُوَ سَقِيمٌ”[6]
(8)ألا يغضب من الملامة
والمخطئ يجب ألا يغضب من كثرة الملامة حتى وإن كانت قاسية ، ولا ينسى أنه جزء من هذه الملامة وسبب في حدوثها ، وعليه أن يحمل ذلك على محبتهم له ، وحرصهم عليه ، وألا يعتبر ذلك نوعاً من الشماتة فيه ، أو السعادة بما وقع له من ضرر.
وعلى المخطئ أن يستحضر خيرة الناس الذين تعرضوا للملامة واحتسبوا ذلك عند الله تعالى ، وإليك أخي المخطئ نماذج لمن تعرضوا للملامة والعتاب ممن أحبوهم وخافوا عليهم.
كعب بن مالك : كان ثالث ثلاثة تخلفوا عن غزوة تبوك فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة أن لا يُكلموا هؤلاء الثلاثة ، وجرت ضد هؤلاء الثلاثة مقاطعة شديدة ، وتغير لهم الناس حتى تنكرت لهم الأرض ، وضاقت عليهم بما رحبت ، وضاقت عليهم أنفسهم ، وبلغت بهم الشدة أنهم بعد أن قضوا أربعين ليلة من بداية المقاطعة أمروا أن يعتزلوا نساءهم ، حتى تمت على مقاطعتهم خمسون ليلة ، ثم أنزل الله توبتهم[7]”وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب الله عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم”
ليس لك من الأمر شيء : وهو عتاب من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم لما دعا على أناس بأسمائهم ، فأراد الله تعالى أن يرده إلى أصل المهمة وهي الدعوة والهداية ، ذكر بن كثير في تفسيره عن عُمَر بن حمزة، عن سالم، عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “اللهم العن فلانا، اللهم العن الحارث بن هِشامِ، اللهم العن سُهَيلَ بنَ عَمْرو، اللهم العن صَفْوانَ بْنَ أُمَيَّةَ”. فنزلت هذه الآية: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } فَتِيبَ عليهم كلّهم.[8]
عتاب في أعمى : يقول تعالى معاتباً لرسوله صلى الله عليه وسلم ” عبس وتولى . أن جاءه الأعمى . وما يدريك لعله يزكى ، أو يذكر فتنفعه الذكرى! أما من استغنى ، فأنت له تصدى؟ وما عليك ألا يزكى؟ وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى؟ كلا! إنها تذكرة فمن شاء ذكره ” وبهذا رد الله للدعوة موازينها الدقيقة وقيمها الصحيحة . وصحح تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي دفعته إليه ، رغبته في هداية صناديد قريش ، طمعاً في إسلام من وراءهم وهم كثيرون . فبين الله له : أن استقامة الدعوة على أصولها الدقيقة أهم من إسلام أولئك الصناديد . وأبطل كيد الشيطان من الدخول إلى العقيدة من هذه الثغرة ، وأحكم الله آياته . واطمأنت إلى هذا البيان قلوب المؤمنين .
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يكرم ابن مكتوم . ويقول إذا رآه : « مرحباً بمن عاتبني فيه ربي » ويقول له : « هل لك من حاجة » واستخلفه على المدينة مرتين.