لا يكفي ونحن نسير في طريقنا لبناء صرح الإيمان في القلب التركيز على أعمال القلوب فقط، بل لابد من القيام بأعمال صالحة بالجوارح تُثبِّت الإيمان وترفع بنيانه.
فلو اكتفينا بعمل القلب ولم نهتم بالعمل الصالح فإن الإيمان سيظل محدودًا في القلب، ولن يظهر أثره الواضح على صاحبه، وبمرور الوقت قد ينزوي وينزوي في القلب.
يقول الإمام الغزالي: « والعمل يؤثر في نماء الإيمان وزيادته كما يؤثر سقي الماء في نماء الأشجار »[1].
فلابد من الاثنين معًا حتى يتم البناء الصحيح لصرح الإيمان ﴿وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا﴾ [الفرقان: 71] .
الانتفاع بالعمل الصالح:
ولكي يتم الانتفاع بالعمل الصالح لابد من استجاشة المشاعر قبل القيام به، ليحدث الاتصال بين المشاعر والجوارح، فيُثمر أداء العمل – بعد ذلك – زيادة الإيمان في هذه المشاعر .
فإن لم يحدث هذا الاتصال قبل العمل، فلن يكون لأداء هذا العمل أثر على المشاعر، ومن ثَمَّ السلوك.
وكلما قوي الاتصال بين المشاعر والجوارح قبل وأثناء العمل، كان الأثر أشد وأقوى، وكما قيل سلفًا فإن الأعمال تتفاضل بتفاضل حركة القلب والمشاعر معها، وأكبر مثال لذلك الصلاة:
يقول صلى الله عليه وسلم : « إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها »[2].
أهمية التذكرة قبل العمل:
من هنا تبرز أهمية التذكرة قبل القيام بأداء العمل الصالح حتى يتم الانتفاع الحقيقي به، ومثال ذلك ما قاله صلى الله عليه وسلم : « اذكر الموت في صلاتك فإن الرجل إذا ذكر الموت في صلاته لحرِّي أن يحسن صلاته »[3].
والتذكرة النافعة هي التي تستجيش وتستثير المشاعر .
ومن الضرورة بمكان وجود إيمان في القلب – ولو كان ضعيفًا – ولابد من استثارة هذا الإيمان بالتذكرة حتى يحدث الوصال بن المشاعر والجوارح ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الذاريات : 55].
وكلما كانت مساحة الإيمان في القلب كبيرة كان حجم التذكرة المطلوبة لاستثارته قليلة، أما إذا كان الإيمان محدودًا ومنزويًا في القلب، فإن التذكرة المطلوبة لابد وأن تكون شديدة حتى تتمكن من إحداث هزة في المشاعر القاسية …
وكذلك فإن التذكرة المطلوبة للأعمال الكبيرة الشاقة على النفوس أعظم من غيرها، فالقتال على سبيل المثال من الأعمال التي تشق على النفوس لذلك كان التوجيه القرآني للرسول عليه الصلاة السلام ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ﴾ [الأنفال : 65] ومعنى « حرض» : أي بالغ في حثهم وتحفيزهم.
وهدف التحفيز والتذكير هو استجاشة المشاعر .. مشاعر الرغبة أو الطمع أو الرهبة أو الغيرة … إلخ
وكلما قويت تلك الاستجاشة واستمرت أثناء القيام بالعمل كان الأثر عظيمًا في زيادة الإيمان ومن ثَم تحسين السلوك.
والمتأمل للخطاب القرآني والخطاب النبوي يجد أنهما يستخدمان هذه الطريقة قبل التوجيه المطلوب القيام به، ومن النادر أن يخلو توجيه من تحفيز يسبقه.
من فقه التحفيز :
لئن كان الجناح الثاني للتربية الإيمانية هو العمل الصالح، فإن الانتفاع به انتفاعًا حقيقيًا في زيادة الإيمان يحتاج إلى تحفيز واستجاشة المشاعر قبل القيام به.
ولكي تكون هذه الطريقة ملازمة للعمل بصورة دائمة فإنها تحتاج إلى ممارسة ومكابدة مرات ومرات حتى يتعود المرء عليها، ويقوم بتنفيذها بصورة تلقائية …
ومفهوم التحفيز والتذكير قبل القيام بالعمل يشترك – إلى حد كبير – مع مفهوم استحضار النية قبل العمل، فالنية : هي القصد والتوجه، وكلما كان التوجه إلى الله عز وجل بالعمل كبيرًا وعميقًا كان العمل أنفع …
فإن قلت: وكيف أقوم بتحفيز نفسي وتحفيز الآخرين قبل القيام بالعمل؟!
هناك وسائل كثيرة للتحفيز والتذكير يمكن للمرء أن يستخدمها مع نفسه ومع الآخرين، وسنذكر العديد منها – بعون الله تعالى – في المقالات القادمة، مع العلم بأنه ليس من المطلوب استخدامها كلها قبل القيام بالعمل، بل علينا أن نأخذ منها ما يناسب العمل المراد القيام به، والوقت المتاح أمامنا لممارسة هذا التحفيز.
فالذي يجد أمامه في الطريق غصنًا أو حجرًا فإنه يحتاج إلى تحفيز نفسه سريعًا بوسيلة أو وسيلتين قبل أن يرفعه من الطريق، والذي يجد أمامه عجوزًا يريد عبور الطريق فإنه يحتاج إلى تحفيز سريع كذلك.
أما الذي يذهب للمسجد لأداء الصلاة فعنده من الوقت ما يجعله يستخدم عدة وسائل في التحفيز، وكذلك الذي يذهب لمساعدة محتاج أو زيارة مريض أو صلة رحم .. وهكذا.
المهم أن نجتهد غاية الإمكان في تحفيز أنفسنا وتذكيرها قبل القيام بالعمل، وأن نستخدم من الوسائل ما يتناسب مع الوقت والعمل، وإن كانت هناك وسائل تكاد تكون مشتركة في كل الأعمال : كالتذكير بالله وابتغاء مرضاته، وبأهمية العمل وفضله، ولذلك أنصح نفسي وأنصحك – أخي القارئ – باقتناء كتاب عن فضائل الأعمال[4].
[1] إحياء علوم الدين ( 1/120 ). [2] حديث حسن : أخرجه أبو داود (1/211، رقم 796)، وأحمد (4/321، رقم 18914)، وابن حبان (5/210، رقم 1889)، والبيهقي (2/281، رقم 3342)، وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم ( 537).
[3] حديث حسن : أخرجه أبو داود (1/211، رقم 796).
[4] ومن هذه الكتب : رياض الصالحين للنووي، والمتجر الرابح للحافظ الدمياطي.