عندما يولد الطفل – أي طفل – فإنه يولد وهو لا يعلم شيئًا عن الحياة، ولا توجد لديه تصورات أو علم مسبق، فالمحتوى التكويني الذي يحدد ملامح شخصيته يكاد يكون فارغًا ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ [النحل: 78].
لا يعرف الضار من النافع.. ولا الخطأ من الصواب.. ليس لديه مقياس يقيس به الأمور .
يشعر بالعطش فيبكي ويبكي ويصرخ، وبعد مجهود منه في البكاء والصراخ تُحضر أمه الشيء الذي يُذهِب عطشه بينما لا يجد أباه يفعل ذلك، بل إذا أراد الشرب يقول شيئًا محددًا مختلفًا عن البكاء فيجد أن أمه تأتيه بمثل ما شربه، فيشتد انبهاره بأبيه، ويزداد شغفه ورغبته في تقليده والتعرف على ما قاله ليفعل مثله.
.. قد ينام على سريره بجوار النافذة فيستيقظ بسبب الهواء المتسرب منها فيبكي ويصرخ، دون أن يعرف أحد سبب بكائه وصراخه، ثم يأتي أبوه فيقول شيئًا ما، فتقوم أمه مباشرة بغلق النافذة، ليحدث له – نتيجة تكرار مثل هذه المواقف – انبهار شديد بأبويه، ويعتبر أنهما الباب الأعظم للولوج إلى العالم، فيُسلم لهما قياده، ويأخذ منهما كل شيء.. يأخذ منهما الطقوس واللغة– أيًّا كانا – ويأخذ منهما طريقة تعاملهما مع الأشياء المختلفة، فما يُقدِّسونه يُقدِّسه، وما يُحقرونه يُحقِّره.
يأخذ منهما المفاهيم والتصورات المختلفة عن مفردات الحياة، ويأخذ منهما كذلك الأخلاق، حسنها وسيئها، فعلى سبيل المثال :
يجد أباه حريصًا على المال، مدققًا في حساب كل شيء، فهو يُقِيم الدنيا ولا يُقعِدها إذا ضاع منه شيء ولو كان يسيرًا، فيوقن أن هذا هو الصواب في التعامل مع المال وأن عليه أن يفعل ذلك .
فإذا كان الأب كريمًا يُنفق على الفقير والمحتاج .. سمحًا في بيعه وشرائه، فإن الرسالة التي ستصل إليه سيكون مفادها أنه ينبغي أن نتعامل هكذا مع المال .
وإذا ما وجد أباه يُكثر الحديث عن نفسه، وإنجازاته، وتاريخه، وتاريخ أسرته أو قبيلته، فهذا هو الصواب – في نظره – ومِن ثَمَّ ينبغي عليه أن يكون كذلك، وبخاصة أنه قد شاهده يمارس هذه الأفعال عشرات بل مئات المرات، فتوضع هذه التصورات عن التعامل مع المال أو النفس في المكان المُخصص لها في المحتوى التكويني لشخصيته، لتُشكل بعد ذلك مُنطلقًا أساسيًّا لسلوكه وبخاصة في أفعاله التلقائية.
التوأمان:
لو افترضنا أن رجلًا من بلد ما قد تزوج امرأة من بلد آخر، وحملت الزوجة وأنجبت ذكرين توأمين، ثم حدثت بعد الولادة بعض المشكلات بين الزوجين تمَّ على إثرها الانفصال ، فاتفقا على أن يأخذ كل واحد منهما طفلًا من التوأمين، وانقطعت الصلة بينهما بعد أن ذهبت المرأة إلى بلدها، وبعد عشر سنوات تقابل الطفلان، فماذا تتوقع منهما ؟ هل سيكونان متشابهين في الطباع والسلوك والاهتمامات كما هما متشابهان في الشكل ؟
.. يقينًا لن يكونا كذلك لاختلاف المصدر الأول والأساسي للتلقي عند كل منهما، فسنوات العمر الأولى هي أهم سنوات التكوين عند الإنسان، ففيها تمتلئ فراغات المحتوى التكويني والتي تحدد ملامح شخصية الفرد، ومعتقداته، ومقدساته وتصوراته لمفردات الحياة، وكيفية التعامل مع المال، والنفس، والآخرين،… إلخ.
وكلما امتلأ المحتوى التكويني قلَّ انبهار الطفل بمن أمامه، فانبهاره الشديد في البداية كان بسبب وجود الفراغ في المحتوى التكويني لشخصيته، ولكن بمرور الوقت تمتلئ الفراغات شيئًا فشيئًا، ومِن ثَمَّ يصبح لديه رصيد خاص به من تصورات وطرائق في التعامل مع معطيات الحياة المختلفة، فإذا ما رأى شخصًا يفعل شيئًا آخر غير الذي تكوَّن وشبَّ عليه تجاه أمر (ما) فإنه لا ينبهر به ولا يأخذه عنه، وهكذا يقل تدريجيًّا استعداده للتلقي من الآخرين مهما كانوا يحملون من قيم عظيمة .
وكلما تقدم في العمر أكثر كلما رسخ وتجذَّر المحتوى التكويني لشخصيته في جوانبها المختلفة من تصورات ومعتقدات تجاه نفسه وتجاه الآخرين، لتصبح إمكانية التغيير في البنية الأساسية لشخصيته أمرًا غاية في الصعوبة، فالأماكن التي تتطلب التغيير قد رسخت فيها المفاهيم والمعتقدات والتصورات الخاطئة وأصبحت كالصخور – أو أشد – في صلابتها، ومِن ثَمَّ فإن أي جهد يُبذَل في اتجاه التغيير – وإن كان جُهدًا مؤثرًا – إلا أن تأثيره سيكون محدودًا، وغايته أن يستقبله بعقله المدرك فيقتنع به، دون أن يدخل هذا الاقتناع لعمق شخصيته، ومحتواه التكويني فتصبح تلك القناعة كالطلاء على الصخر.. يُغير لونه ولا يُغير أبدًا طبيعته، وتتجلى تلك الحقيقة تمامًا عند المحكَّات العملية، والممارسات الحياتية التلقائية حيث يسقط فيها هذا الطلاء الخارجي بسهولة، وتبقى الشخصية على ما تكونت عليه .
وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوَّده أبوه
ويؤكد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: « ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه». [متفق عليه]
هكذا يقرر الحديث أن الأبوين هما اللذان يشكلان – إلى حد كبير – ملامح شخصية ابنهما ومعتقداته: فيبقيانه على فطرته مسلمًا أو يغطيان عليها بأن يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه.
كما يجعلانه متواضعًا أو متكبرًا .. كريمًا أو بخيلًا .. رفيقًا أو غليظا.
فإذا أضفنا إلى هذا العامل – المؤثر غاية التأثير – العوامل الأخرى التي تتفتح عين الطفل عليها وتشكِّل موردًا إضافيًّا لتشكيل محتواه التكويني، والتي يأتي على رأسها وسائل الإعلام – وبخاصة المرئية– والمدرسة، والبيئة المحيطة من أقارب وجيران وأصدقاء؛ لزاد تأكدنا على أن الشخصية التي يتعامل معها التربويون والتي تجاوزت سن المراهقة قد تم تشكيل أغلب مكوناتها الأساسية بأمور مختلطة في التصورات والعقائد والقيم، وأن هذه الأمور يزداد تجذرها ورسوخها كلما تقدم العمر ومارسها المرء مئات وآلاف المرات.
هل هي دعوة لليأس؟
لو فكرنا في هذا الأمر لوجدنا أنه من الصعب النجاح في عملية التغيير الداخلي للأفراد مهما بُذِل فيها من مجهود، وذلك بسبب اكتمال – أو شبه اكتمال – المحتوى التكويني عند الأفراد، وعدم وجود فراغات أساسية في تكوين الشخصية يُمكن للتربية الصحيحة أن تملأها، ولو وُجِدت لكانت ضئيلة النسبة ضيقة المساحة بحيث لا تتسع لكي تحل بداخلها قناعات ومبادئ أخرى.. لو فكرنا في هذا كله لخلصنا بأن أمر إعادة بناء الشخصية المسلمة غاية في الصعوبة إن لم يكن مستحيلًا .
ولعل إدراك أبعاد وخطورة هذه المسألة يجيب على تساؤلات الكثيرين عن عدم ظهور الثمار الإيجابية للأعمال التربوية التي تهدف إلى تغيير الفرد على الرغم من الجهد الكبير المبذول فيها..
..ويجيب كذلك على تساؤلهم: لماذا ينكشف المستوى الحقيقي للفرد عند تعرضه لبعض المحكات العملية، كأن يُمسَّ رزقه، أو يواجه نقدا أو نصحا من غيره، أو يتعرض لفتن الدنيا واختباراتها؟!
والجدير بالذكر أن هناك نماذج طيبة صالحة مصلحة موجودة – بفضل الله – في الأمة وبين العاملين في حقل الدعوة والتربية، ولكنها أولًا: قليلة،وثانيًا: أن بنيتها الأساسية وتكوينها الصحيح في البيئة الأولى له دور كبير في وصولها لهذا المستوى بفضل الله، وثالثًا: اهتمامهم الشديد والمستمر بتربية أنفسهم، وتزكيتها وتعاهدها بالتطهير والعلاج.
علينا أن نتساءل :
كيف تتزلزل الصخور المتجذرة في محتوانا التكويني وتتحطم، ويُعاد بناؤها من جديد على أساس العبودية لله عز وجل، ومعاني الإسلام الصحيحة؟
يقينًا.. يوجد حل:
على الرغم من الصعوبة القصوى للتغيير الحقيقي للفرد بعيدا عن فترة التكوين الأولى، إلا أنه (يقينًا) توجد حلول عملية وواقعية للتغلب على هذا الأمر.