الكاتب: د. فريد الأنصاري
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه تعالى نستعين
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً
ــــ
مدارسة سورة الفاتحة
باسمه تعالى نفتتح المجلس الأول من سورة الفاتحة. ومنهجُ التدارس قائم أساساً على السير المتأني، والتحقق بالآيات كلمةً كلمةً؛ قصد تمكين القلب من التلقي للرسالات المنهاجية الواردة في السورة، والتخلق بحقائقها الإيمانية. وما التوفيق إلا بالله.
تقديم
الفاتحة باب القرآن
و”فاتحة الكتاب” هي باب القرآن الأول. هي “فاتحة” نعم، ولكنها ليست كأي فاتحة! فإذا كان مِنْ وظائفِ المقدماتِ والفواتحِ تقديمُ مضمونِ الكتاب للناس، على سبيل العرض الإجمالي، فإنَّ الله – جلَّ جلالُه – قد ثَـنَى القرآنَ كلَّه ثَنْياً في سورة الفاتحة! وإنما هي سبع آيات! بما بهر القلوب بقوة نوره! وأعجز العقول عن إدراك سره! فلذلك سماها تعالى “السَّبْعَ الْمَثَانِي”! وبذلك أيضا كانت هي “أم القرآن”، و”أم الكتاب”! وكانت مفروضةَ التلاوةِ في كل ركعة من كل صلاة، فريضةً كانت أم نافلة! لا تصح صلاةٌ إلا بها! قال صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاةً لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خِدَاجٌ! فهي خِدَاجٌ! فهي خِدَاجٌ! غَيْرُ تَمَامٍ!) والْخِدَاجُ: النقصان والفساد واللغو. وقال عليه الصلاة والسلام جازما: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب!)
ويكفي سورةَ الفاتحةِ قدراً وعظمةً أنها هي التي امتن الله بها على خليله المصطفى محمد – صلى الله عليه وسلم – في قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ!)(الحجر:87). فجعلها في سياق الْمَنِّ مُوَازِيَةً لكل القرآن العظيم؛ بما ثَنَى فيها من جميع حقائق القرآن! حتى لكأنها هي كل القرآن! وقد صَرَّحَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – ببيان ذلك فقال: (أم القرآن هي: السبع المثاني والقرآن العظيم!)( ). وقال عليه الصلاة والسلام: (“الحمد لله رب العالمين”: أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني!)( ) ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: (“الحمد لله رب العالمين” هي: السبع المثاني الذي أوتيته والقرآن العظيم!)( ) وعن أُبَيٍّ – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (السبع المثاني: فاتحة الكتاب!)( ) والأحاديث الصحيحة في ذلك كما ترى كثيرة وفيرة!
ومن هنا فالفاتحة باب ليس كأي باب! إنها تنفتح بك مباشرة على الملأ الأعلى! وتنطلق بك في سياحة روحية كبرى في عالم الْمُلْكِ والملكوت! وتتدفق منها على مواجيدك المشاهداتُ تَتْرَى! أليس القرآن هو الكتاب الجامع لكل الكتب؟ والكتاب المهيمن على كل الكتب؟ ثم أليس الفاتحة هي أم ذلك الكتاب الجامع والمهيمن؟ فأي مُلْكٍ تنفتح عليه هذه الآيات العظيماتُ وأي ملكوت؟! ذلك ما لا سبيل إلى حده بعبارة! ولا إلى وصفه بإشارة! فلا يملك الداخل عبر كلماتها إلى عوالم القرآن، إلا أن يَخِرَّ راكعاً لله رب العالمين! وإنما يكفيني مؤونة البيان العاجز، أن أحتمي ببيان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أعلم الخلق بالله وبكتابه! قال سيدي مُقْسِماً بخالقه العظيم على التفرد المطلق للفاتحة عن كل الكتاب! وعلى ما تكتنـز به اختصاصاً من أسرار اللوح المحفوظ وأنواره! فَاسْتَمِعْ وأبْصِرْ ثم تَدَبَّرْ: (والذي نفسي بيده! ما أُنْزِلَ في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في الفرقان مثلها! وإنها لسبعٌ من المثاني والقرآنُ العظيم الذي أُعْطِيتُهُ!).
ذلك لأنها معراج الروح الأبدي إلى الله، بما هو جلَّ جلالُه رَبُّ العالمين، كُلِّ العالمين! فأي باب هذا أم أي طريق؟ ذلك سر من أسرار جَعْلِهَا هي الصلاة! وجعلها مَنَاطَ الصِّلَةِ اليومية بالله لملايير المسلمين إلى يوم الدين! ثم جعلها مقسومةً بين الرب الكريم وبين عبده المطيع نصفين، حَمْداً وعَطَاءً مُتَبَادَلَيْنِ، لا ينتهيان أبداً! فمن ذا يَشِذُّ عن مدارها الجميل شارداً عن الله، إلا ضَالٌّ مَكِينٌ وخَاسِرٌ مُبين! ذلك بيان سيدي المصطفى عليه الصلاة والسلام، في إضافةٍ نوريةٍ على شعاع الحديث السابق، قال: (ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل مثلُ أم القرآن! وهي السبع المثاني. وهي مقسومة بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل!).
وإن لتنـزيل سورة الفاتحة على محمد – صلى الله عليه وسلم – مع خواتيم البقرة، لَقِصَّةً وأي قصة! أخرج مسلم عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال: (بينما جبريلُ قاعدٌ عند النبي – صلى الله عليه وسلم – سمع نقيضاً من فوقه فرفع رأسه، فقال: هذا بابٌ من السماء فُتح اليوم، ولم يُفتح قط إلا اليوم! فنـزل منه مَلَكٌ فقال: هذا مَلَكٌ نزلَ إلى الأرض، لم ينـزل قط إلا اليوم! فسَلَّمَ وقال: أبشر بنورين أُوتِيتَهُمَا لم يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ! فاتحةُ الكتاب! وخواتيمُ سورة البقرة! لن تَقْرَأَ بِحَرْفٍ منهما إلاَّ أُعْطِيتَهُ!)( ) يعني مما ورد فيهما من الذِّكْرِ والدُّعَاءِ، طَلَباً طَلَباً! ورَغَباً رَغَباً! فأي خسران تحصده الأمة اليوم، وأي غبن تجنيه؛ إذْ فرَّطتْ في هذا الكنـز العظيم!
فيا نفسي الجهولة المغبونة! أَوَتَدْرِينَ ماذا تخسرين!؟ وكم تخسرين!؟ حينما تستفتحين الصلاة بقلبٍ شاردٍ عن مشاهدات الجمال والجلال، وأنتِ قائمةٌ بمحاريب السبع المثاني؟! فواحسرتاه واحسرتاه! على عمر ضاع في متاهات الشرود! وواحسرتاه واحسرتاه! على نَزَقٍ تلطخ بأوساخ الذنوب! والفاتحة بين يديك الآن تتدفق بكوثر الرحمة والغفران، ولا أنتَ يا قلبي الكليل تتعرض لربيعها!
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(1) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(2) مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ(3) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ(4) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ(5) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ(6) غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ(7).)). آمين!
وقد قسمنا السورة إلى خمسة مجالس. ندخل الآن المجلس الأول منها فقط.
المجلس الأول
في مقام التلقي لرسالة الافتقار
والابتلاء فيه واقع بالكلمات التالية:
1- كلمات الابتلاء: “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم”
2- البيان العام:
هذا مقام الفرار إلى الله، وطلب الجوار منه جَلَّ عُلاَه!
عندما يستفتح العبدُ لحظاتِ الاستدرار لنور الله العظيم، تلاوةً لكتابه الكريم، فإنه يخشى أن يسطو الشيطان على قناة الاتصال بوجدانه فيجعله من الغافلين! والشيطان كل متمرد على الله من الجن والإنس. وإبليس اللعين رأس الشياطين في العالمين. وهو عدو مبين! فقد تعهد لرب العالمين بإفساد الأرض وإضلال أهلها أجميعن! (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ! إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ! قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ. إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ!)(الحجر: 40-42).
وقد طرد الله – جَلَّ جلالُه – إبليسَ من سماواته، ورَجَمَهُ بالشُّهُب الثواقب! فتفرغ اللعينُ لهذا الكيد العظيم! لا يدع للخير بداية إلا أربكها بقاصف الوساوس ونيران الفتن! فجعل الرحمنُ “الاستعاذةَ” لعباده المؤمنين، نجاةً وأماناً من كل شيطان رجيم. وماذا أعظمُ من جوار الله الواحد القهار سلاماً للمؤمنين؟
ومن هنا كانت صيغة الاستعاذة راجعة إلى معنى قول القائل: أستجير بالله وحده من الشيطان الملعون، المطرود من رحمة الله، وأعتصم به تعالى من أن يضرني في ديني، أو يصدني عن حق من حقوق ربي! هكذا مطلقا، لكنها تتخذ لها خصوصا عند اعتمادها في سياق خاص؛ لتأمين الفعل المقصود بها في ذلك السياق، من تلاوة، أو صلاة، أو نحو هذا وذاك من أعمال البر والصلاح، وسائر التصرفات التعبدية، أو عند مواجهة الإملاءات الشيطانية! فيقوم المؤمن بتطهير مداخل نفسه تطهيرا من كل طَرْقٍ شيطاني خفي، مستجيراً بربه القوي العزيز: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم!) فتولي الشياطين الأدبار هاربة في متاهات ضلالها، وظلمات كيدها، بعيداً، بعيداً عن شلال النور الذي تدفق على القارئ بمجرد طلب الغوث والأمان من رب العالمين!
والاستعاذة بهذه الصيغة ليست آية من كتاب الله، لكن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان يقرؤها؛ استجابةً لأمر الله تعالى في القرآن: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)(النحل:98). فهي أمر رباني وسنة نبوية.
3- الْهُدَى المنهاجي:
وهذه الآية مع الصيغة النبوية في الاستعاذة، كلاهما متضمن لخمس رسالات، لا بد للسائر إلى الله – جَلَّ ثناؤه – عَبْرَ مِعْرَاجِ القرآن الكريم من تلقيها جميعا، الواحدة تلو الأخرى، وإلا فلا وصولَ ولا قَبولَ:
- الرسالة الأولى:
أنه لا بَدْءَ في طريق الله، ولا فَتْحَ للعبد الطَّارِقِ أبوابَ مَعَارِجِ القرآن؛ إلا بإعلان الولاء لله الحق، والانتظام في صف العابدين له وحده دون سواه! وإعلان معاداة الشيطان بما هو عدو لله رب العالمين، والتبرؤ منه ومن حزبه وأتباعه! وإنما الاستعاذة فتح عين القلب على بصيرة قرآنية عظمى، لا يجوز نسيانها أبداً! هي قوله تعالى: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا! إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِير!)(فاطر:6) إن الاستعاذة ليست مجرد عبارات تُلْقَى في الهواء فحسب، ولكنها اتخاذ موقف! فتَدَبَّرْ..! - الرسالة الثانية:
في أنه لا قوة للعبد على الانطلاق وبدء السير إلى الله والتعرف إليه تعالى؛ إلا بالاحتماء به، والالتجاء إليه ابتداءً! فلا وصول إليه بمجرد الجهد الخاص والكسب الذاتي، بل لا بد من استدرار توفيقه ورحمته، فالهداية والتوفيق والسداد، كل ذلك إنما هو بيده وحده جل علاه! وذلك من صميم التوحيد والإخلاص. وتحقيق معنى الاستعاذة في النفس تَخَلُّقٌ عميقٌ بهذا المعنى العظيم. ولا صحة لعمل – من حيث القصد التعبدي الخالص – إلا باستدراج هذا الأصل الإيماني في عمق القلب، نيةً تعبدية خالصةً، لتخليص العمل وتصفيته من كل مَنٍّ، ومِنْ كُلِّ حَوْلٍ وقوةٍ، إلا ما كان بالله وله، وحده دون سواه! - الرسالة الثالثة:
في أن التعبد بالقرآن تلاوةً، وتزكيةً، وتعلماً وتعليماً، لن يؤتي ثماره، ولن يكشف عن أنواره لعبد؛ إلا إذا تبرأ من كل حول وقوة، وقدَّم بين يدي تلاوته علامة الافتقار إلى الله الغني الحميد، وهي الاستعاذة. ولذلك ليس كل قارئ للقرآن بقارئ! ولا كلُّ تَالٍ له بِتَالٍ! وإنما القارئ والتالي له هو من يتلوه حق تلاوته. والتحقق بمقاصد الاستعاذة شرط من شروط التلاوة الحق! فمن أخطأ حقيقتَها أو استهان بها عَدِمَ الثمرة، وحُرِمَ النور! فكم من قارئ يقرأ القرآن وهو عليه عَمًى! والعياذ بالله! (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ. وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى! أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ..!)(فصلت: 44). - الرسالة الرابعة:
في أن الشيطان قد يتدخل فيما يقع بقلب العبد من آثار التلاوة – وهو من أشد الكيد – فيفسد الفهم، أو يفسد نية الافتقار والتعبد عند التلقي عن الله، أو يصرف البال عن مشاهدة نور الهداية؛ فلا يخرج العبد من تلاوته بشيء، وربما خرج بضلال وحيرة والعياذ بالله، كما حصل لأهل الضلالة قديما وحديثا عند قراءة القرآن! وذلك نحو ما في قوله صلى الله عليه وسلم: (سيخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم! يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّمِيَّةِ!) فلا ينجو المؤمن من هذا وذاك إلا بطلب الغوث من الله استعاذةً به تعالى؛ لتأمين وصول الواردات إلى قلبه صافيةً خالصةً! لا أثر فيها لإلقاءات الشيطان فهماً وقصداً. - الرسالة الخامسة:
في أن العبد المستجير آمِنٌ من كل ذلك وغيره بإذن الله؛ لأنه استجار بعظيم! وهو – جل وعلا – لا يُضَامُ جَارُه!
فالْهُدَى المنهاجي المستنبَط من “الاستعاذة” راجع إلى كونها تعبيراً عن وَصْفٍ نفسي وَوِجْدَانٍ إيماني، يقع بقلب العبد قبل أن يقع بلسانه. والتحققُ به هو أول الطريق. وتلك هي المنـزلة الأولى من منازل الإيمان، لمن رام الإقلاع في طريق التعرف إلى الله.. إنها كلمة الأدب بإعلان الافتقار الكامل إلى الله الغني الحميد جل علاه، والتبرؤ من كل حول وقوة في العلم والعمل، إلا ما كان مَنّاً كريما وفضلا جميلا من الله وحده! فلا انطلاق بغير التخلق بوصفها والتحقق بمقامها. فإن تَفْعَلْ بصدق وإخلاص فأبشر! إنك آمِنٌ بإذن الله، محروسٌ بجنوده جلَّ عُلاه، فَانْعَمْ مُطْمَئِنّاً بجِوَارِهِ تعالى وحِمَاه!
4- مسلك التخلق:
والمسلك العملي للتخلق بما في هذه الكلمات من معنى تعبدي، وحكمة ربانية، راجع إلى إحداث وقفة خاصة مع النفس، ومساءلتها: ماذا تريد؟ ماذا تريد بما هي مقبلة عليه من قراءة أو عبادة؟ أحقا تريد الوصول إلى الله؟ أحقا تريد القيام بحقه العظيم جل علاه؟ والدخول في القيام بوظيفة الخدمة لدينه؟ وحمل ميثاق عهده وأمانته، وتَلَقِّي رسالاتِ هَدْيِهِ وقرآنه؟ واستدرار مدده وأنواره؟ أم أنها تقرأ وكفى؟! بلا قصد تعبدي، إلا قَصْدَ التَّعَوُّدِ والتسميع، وما دون ذلك من مبطلات الأعمال ومحبطاتها؟! فانشر نَفْسَكَ المريضة يا قلبي على طاولة التشريح؛ لاستئصال ما تجده مندسا بخفاياها وجيوبها، من حظوظها الدنوية، وموانعها الشيطانية، واقطع ذلك كله واحداً واحداً، بمقراض “الاستعاذة” تنـزيلا لمقاصدها على مواطن الداء تنـزيلاً! فلعلك تنهض سليماً مُعَافىً، بإذن الله!
حتى إذا صارت لك حقائقُ الاستعاذة الإيمانية خُلُقاً وطَبْعاً، أصبح معناها بقلبكَ زاداً إيمانيا، تجده جاهزاً – إن شاء الله – متى استدعيتَه بقراءتها، عند كل تلاوة، وعند كل تصرف تعبدي أنَّى كان؛ فأَبْشِرْ!
ثم إن أول ما يبعث النفس على الانطلاق السليم – بعد ذلك – هو تخليص الوجهة وتوحيد القبلة! فلك أن تطالع – لهذا القصد – أحوال السابقين الأولين كيف سبقوا؟! وتشاهد غبطة الواصلين الصادقين كيف وصلوا؟! لقد قرؤوا القرآن بكمال الافتقار إلى الله وتَلَقِّي رسالاته هُدًى وشفاءً لقلوبهم؛ فانفتحت لهم مَعَارِجُ الروح، وارتقوا في الدنيا وفي الآخرة! وتلك مَعَارِجُهُمْ لم تزل مفتوحةَ الأبواب؛ فاقْرَأْ يَا صَاحِ وارْتَقِ!
فيا نفسي المغرورة..!
إلى متى تبقين هكذا شاردة عن باب الله؟ إلى متى وأنت تستجيبين لأهوائك؟ تفرين إلى شهواتك وملذاتك؟ وتتلفعين بذاتك وأنانيتك؟ وما أنتِ إلا قطرة من روح في جرة من طين! متى انكسرتْ سالت! آهٍ يا نفسُ! هذه مَسَامُّكِ الصغيرة تتسع من حين لآخر؛ فيتسرب منها الشيطان إلى نفسك ليعيث فسادا داخل خواطرك وأشواقك! فيَحُولَ دون انطلاق الروح في رحلة السير الكوني إلى الله! عجبا كيف تصبرين على هذه الحال وها كل الطيور قد أعلنت توبتها، وانطلقت تضرب بأجنحتها بعيدا في رحلة المحبين؟! ففري إلى الله مستعيذةً بالله! وأعلني الافتقار الكامل له وحده جلَّ عُلاه؛ عسى أن تكوني من أهل النجاة والفتح المبين! ذلك قول الحق ذي القوة المتين: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِين!)(الذاريات:50). واجْأَرِي إلى مولاكِ باستغاثة الفقراء الصادقين: “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم!”