مع المتدبرين

سلسلة سورة الفاتحة 2

الكاتب: د. فريد الأنصاري

المجلس الثاني
في مقام التلقي لرسالة الاستئذان

والابتلاء فيه واقع بالكلمات التالية:

1- كلمات الابتلاء: “بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ”
2- البيان العام:
أما هذا فمقام الاستئذان! مقامٌ يتدفق بأنوار السكينة والجمال!
“بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ”: هي صيغة البَسْمَلَةِ، مفتاحٌ لكنوز الأسرار والأنوار!

وهل يَخْرُقُ العبدُ الأعتابَ والأبواب على سيده بغير طَرْقٍ؟ ولا يراعي مقام العبدية في جانب فعله، ولا مقام الربوبية في جانب سيده، فينتهك كل حرمات الأدب والحياء! إذن يُطْرَدُ مذموماً مدحوراً! ويُحْرَمُ من بركات النور والهدى!

فاطرقْ أبوابَ القرآن يا قلبي مستأذناً على مولاك!.. ورَتِّلْ: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ!)
والبسملة بهذه الصيغة جزء آية من سورة النمل، وهي في قوله تعالى على لسان سليمان عليه السلام من كتابه إلى بلقيس: (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)(النمل:30). لكنها ليست آية معدودة ضمن سورة الفاتحة. غير أنَّ قراءتها عند بدء السُّوَرِ سنة ثابتة، ما عدا سورة التوبة.

ومعناها: أبدأ بتسمية الله وذِكْرِه دون غيره، بما هو – جل وعلا – “الرحمن”: أي واسع الرحمة، رحمة تَسَعُ كلَّ خلقه، وتشملهم أجمعين، صالحهم وطالحهم، مؤمنهم وكافرهم، إنسهم وجنهم… إلخ. وبما هو “الرحيم”: أي أن له خصوص رحمة متفردة للمؤمنين خاصة دون غيرهم، في الدنيا والآخرة. فقول القائل: (بسم الله الرحمن الرحيم) عند قراءة السورة من القرآن توحيدٌ متضمن معنى الدعاء، فكأنه قال: اللهم إني أقرأ هذه السورة باسمك وبإذنك وحدك، ولا مراعاة لغيرك في هذا، معترفاً ومُقِرّاً بأن قراءتي هذه إنما هي تَجَلٍّ من تجليات رحمتك عليَّ، من حيث أنت الرحمن الرحيم. فبرحمتك الشاملة أتمكن من القراءة فعلا، وأقدر على ممارستها، وبرحمتك الخاصة أهتدي إليها، وأستفيد من بركاتها وأنوارها. ومن هنا كان الأدب أن أقرأ باسمه هو تعالى لا باسم غيره، فهو وحده صاحب الفضل كله!

فإذا كانت “الاستعاذة” إعلانا للافتقار وطلبا للجِوَار، فإن “البسملة” استئذانٌ، واستمداد التوفيق من الرحمن! وكلتاهما عتبةٌ من نور لدخول القلب إلى كنوز الفاتحة.

3- الهدى المنهاجي:
وهدى الآية متضمن لأربع رسالات:

  • الرسالة الأولى:
    أنك ما قدَرتَ على ما تريد فعله؛ ولا وُفقت إليه إلا برحمة الله، تلك الرحمة الربانية العظمى التي لا يقوم شيء في الكون إلا بها! وهو من أهم معاني التوحيد والإخلاص، مما يحقق للقلب بركة العمل، وثمرته الإيمانية فعلا. فلا تغبن نفسك يا صاح، وتخلق بهذا الصلاح!
  • الرسالة الثانية:
    في أن العبد لا ينبغي له أن يتصرف في شيء من الأعمال إلا باستئذان سيده، سواء كان ذلك من العبادات أو من العادات؛ تعبيراً عن مطلق التوكل والخضوع الواقعين بالقلب. ولذلك شرع النبي – صلى الله عليه وسلم – بسنته القولية والعملية اعتماد الأذكار، عند بداية كل فعل وتصرف تعبدي أو عادي، من صلاة وصيام وحج، أو بيع وشراء، ودخول وخروج، ومباشرة، ونوم واستيقاظ… إلخ. كل ذلك له في السنن الصحيحة عبارات من الأذكار، تدور حول المعنى الاستئذاني التوكلي، الذي شُرِعَتْ له “بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ”.
  • الرسالة الثالثة:
    في أن المستأذِنَ مُسْتَنِدٌ إلى مولاه ومنتسب في عبوديته إليه! فلا يصول ولا يجول إلا به؛ وبذلك تتجلى عليه بركة الرحمن، قُوَّةً ومَدَداً! فقيمة المملوك تتحدد بقيمة من يملكه! فمن ذا قدير إذن على إذاية عبد الله؛ إذا انطلق يحمل شارة الإذن من مولاه؟! ومَنْ مِنَ الناس يستغني بنفسه عن الله إلا جاهلٌ بالله؟ كيف وهذا سليمان نفسه – عليه السلام – وهو من هو في قوته ومُلكه، يكتب إلى بلقيس نَصَّ الاستئذان من ربه، وشارة الاستناد إليه: (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ!)(النمل:30)! وإن تلك لعلامة ربانية تفتح النور على الهداية الرابعة، وهي:
  • الرسالة الرابعة:
    أن ما كان “باسم الله” وحده صِدْقاً؛ كان لله وحده قَصْداً. وما كان كذلك تولاه الله بالحفظ والرعاية، وبالتسديد والترشيد، وبالنصرة والتمكين! فلا يكون شيءٌ من فعل العبد آنئذ، في الدين والدعوة، وفي سائر ضروب الكسب الدنيوي والأخروي، إلا على عَيْنِ الله – جَلَّ جلالُه – صناعةً ومَعِيَّةً! فأَعْظِمْ بِهِ من عَمَلٍ يَتَوَلاَّهُ اللهُ ويَنْصُرُهُ!

4- مسلك التخلق:
ومسلك التخلق بهذه الكلمات قائم على تحقيق المشاهدة تفكراً وتدبراً، لعجزك عن فعل أي شيء إلا بالله! هذا من جهة، ثم تحقيق المشاهدة – من جهة أخرى – لتجليات أسمائه الحسنى في ملكوت السماوات الأرض؛ وهيمنة الرب العظيم على كل شيء! تتدبر ذلك كله وتتبصره، وتتدرج عبر معارفه بمداومته منـزلةً منـزلةً؛ حتى تعاين يقينا أن لا شيء يكون في الْمُلْكِ والملكوت – مهما دَقَّ – إلا بإذنه! (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ! فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ!)(يس: 82-83)

فيا نفسي الأمَّارة! واهِمَةٌ أنت! كيف تستطيعين العيش خارج جمال الرحمة الإلهية؟ وهذه أنوارها الكبرى تمتد إلى العالمين بأسرار الأسماء الحسنى وبركاتها.. تفيض على العباد بلطف الرعاية، ونور الهداية! كيف؟ وهذا نور الرحمن جل جلالُه؛ لو انقبض عنكِ – لأَقَلَّ مِنْ طَرْفَةِ عَيْنٍ- لكنتِ عدما في عدم! ويحك..! ومن ذا في الكون قائم بغير اسمه تعالى؟ فأعلني الانتساب إلى الله! وتأدبي عند طرق بابه الكريم؛ معتصمة بسر الاسم: الله الرحمن الرحيم؛ يَكُنْ لكِ ما تقصدين إن شاء الله!

انتهى.