القرآن والسير إلى الله:
كما أن لدى القرآن القدرة على تغيير سلوك صاحبه وذلك بالعمل المستمر على زيادة الإيمان في قلبه وطرد الهوى منه، فإن لديه القدرة كذلك على السير به إلى الله والاقتراب الدائم منه حتى يصل العبد إلى درجة الصديقية، وهي الدرجة التي تلي الأنبياء في القرب من الله عز وجل وذلك من خلال ما يعرف بـ «أعمال القلوب».
أعمال القلوب:
أعمال القلوب هي العبادات التي ينبغي أن يمارسها القلب عند تعرضه لأحوال معينة. فعندما يتوجه البدن بطاعة من الطاعات، كالصلاة أو الانفاق ينبغي أن يصاحب ذلك عبادة قلبية تُسمى الإخلاص لله عز وجل، كما قال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: 5].
والعبودية التي ينبغي أن يكون فيها القلب عند ورود النعم عليه: الشكر لله عز وجل، كما قال تعالى: ﴿فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [الأعراف: 144].
والصبر هو عبودية القلب التي ينبغي أن تلازمه عند ورود المصائب أو الابتلاءات عليه، كقوله تعالى: ﴿وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ﴾ [الحج: 35].
والخشوع والخضوع والتواضع هي عبوديته عند ذكره لله عز وجل وتذكَّر عظمته وكبريائه مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [الأنفال: 2].
وعبادة التوكل على الله والاستعانة به ينبغي أن تصاحب القلب قبل القيام بأي عمل: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ [آل عمران: 159].
والتقوى هي الحال التي ينبغي أن يكون عليها القلب بعد القيام بأي طاعة. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183].
والرضا هو الحال الذي ينبغي أن يستقبل به القلب أقدار الله عز وجل وبخاصة المؤلمة منها. وعلى قدر القيام بهذه الأعمال تكون عبوديته لربه، ومن ثَم قربه منه.
فإن قال قائل ولكن كيف يمكننا القيام بهذه الأعمال القلبية، وما هو دور القرآن في ذلك ؟
قبل الإجابة بهذه عن هذا السؤال لابد أن يتطرق الحديث حول منشأ هذه العبادات والفرق بين الحال والمقام.
الحال والمقام :
عندما تبلغ مسامع شخص ما أخبار ساره فإنه يعيش في حالة من الفرح والسرور، وعكس ذلك يكون عند تلقِّيه أخبارا محزنة، هذه الحالة تزول بعد فترة من تعرضه للمؤثرات التي أثرت فيه، فإذا ما كان المؤثر شديدا أو استمر في تعرضه له لفترة طويلة، فإن هذه الحالة الشعورية التي انتابته ستلازمه لفترة أطول من الزمن، وهذا ما يُسمَّى بالمقام، أي أنه أقام في هذه الحالة واستمر عليها.
فالحال إذن هو الحالة الشعورية الطارئة التي تنتاب الشخص عند تعرضه لمؤثر ما، ولا يصبح هذا الحال مقاما إلا إذا عاش فيه ولازمه وأقام فيه، فقد تتلقى امرأة خبرا بوفاة زوجها الذي هو في نفس الوقت شقيقا لواحد من الناس وابن عم لواحد آخر.. بلا شك سيعيش الجميع في حالة من الحزن عند وقت تلقيهم النبأ، هذه الحالة ستزول عند ابن العم في وقت أقصر منه عند الأخ، أما الزوجة ففي الغالب أن حالة الحزن ستلازمها وقتا طويلا فتظل في مقام الحزن.
.. هذا من ناحية المشاعر، أما من ناحية السلوك فعلى قدر استثارة المشاعر تكون القوة الدافعة للعمل، فعلى قدر قوة المؤثر يكون العمل المُصاحب، وعلى قدر الاستمرار أو المقام في الحالة الشعورية المستثارة يكون الاستمرار في العمل المصاحب.
فالبكاء مثلا عمل مصاحب لمشاعر الحزن عندما تتمكن من القلب وسرعة استدعائه مرتبطة ببقاء هذه المشاعر في حالة من التوهُّج.
فإذا ما اتضح هذا الأمر فما علينا إلا أن نُسقطه على عبادات القلوب.
- فالشكر عبادة قلبية تنتج من استثارة مشاعر الحب لله عز وجل، هذه الحالة الشعورية قد تكون طارئة فيعيش القلب شاكرا لله عز وجل في لحظات معدودة، وقد تستمر الحالة فترة طويلة فيستمر القلب في مقام الشكر مما يدفعه إلى القيام بأعمال تُعبِّر عن هذه العبادة القلبية كسجود الشكر، وقيام الليل، وكثرة حمد الله عز وجل باللسان وذكر نعمه والتحدث عنها.
- والشعور بالاحتياج إلى الله عز وجل يستدعي عبودية الاستعانة به سبحانه وتعالى، وعلى قدر قوة الحالة الشعورية يكون العمل المُصاحب والذي يمثله الدعاء إلى الله عز وجل بإلحاح وصدق. واستمرار هذه العبودية وهذا العمل مرهون ببقاء تلك الحالة الشعورية.
- وعندما تهيج مشاعر الحياء من الله عز وجل يعيش القلب في عبودية المراقبة والإخلاص والتي قد تصل إلى الإحسان المذكور في حديث جبريل المشهور أي أن تعبد الله كأنك تراه.
- وعندما ينتاب الشخص شعور بالعجز والانكسار لله عز وجل يعيش قلبه في عبودية الاستسلام والخضوع لله عز وجل.
- وعندما تتأجج مشاعر الخوف من الله عز وجل في القلب فإنه يعيش عبودية التقوى له سبحانه.
أما عبودية الإنابة والتوبة فيتجه إليها القلب عندما تستثار مشاعر الرغبة والطمع فيما عند الله عز وجل.
.. هذه الأحوال المختلفة التي قد تطرأ على مشاعر العبد تجعل قلبه يتقلب في ألوان من العبودية لله عز وجل بقدر ما تمكث هذه الأحوال، وما من مؤمن بالله عز وجل إلا وعاش فيها ولو للحظات، ولكنه لا يلبث أن يعود إلى سابق عهده من الغفلة بعد ذهاب المؤثر القوي.
الطريق إلى العبودية :
إذن لكي يصبح القلب في عبودية تامة ودائمة لله عز وجل يجب أن تكون مشاعره متوجهة إلى الله عز وجل وبصورة مستمرة مما يجعل استثارة أي منها تتم بأدنى مؤثر، فيؤدي ذلك إلى توجه القلب إلى العبادة المناسبة للمشاعر المُثارة وبصوة تلقائية، فإن أصابته سرَّاء شكر وإن أصابته ضراء صبر، وإن عزم على أمر توكل على الله، وكلما توجه القلب إلى العبودية المناسبة فإنه بذلك يسير إلى الله ويقترب منه.
ولكن كيف يمكننا أن نصل إلى هذه الحالة القلبية من خلال القرآن؟
الطريق الذي يسلكه القرآن للوصول بصاحبه إلى هذه الحالة يتلخص في قدرة القرآن على إنشاء الأحوال المختلفة التي يعيشها القلب وذلك بتنوع مؤثراته عليه فتارة يُخوفه بذكر يوم الحساب وما فيه من أهوال، ويذكره النار وما تحتويه من ألوان العذاب، وبعاقبة المكذبين من الأمم السابقة..
وتارة يُرغبه بذكر الجنة وما فيها من ألوان النعيم، وتارة يستثير فيه مشاعر الحب بكثرة ذكر النعم، وتارة يستثير مشاعر الاحتياج إلى الله بعرض جوانب الفقر إليه..
هذه الأحوال التي ينشئها القرآن في القلب تتحول بمرور الأيام إلى مقامات ثابتة يعيشها القلب، وذلك من خلال كثرة استثارته للمشاعر المختلفة ودوام الضغط عليها حتى تتمكن الأحوال الطارئة من القلب فتصبح مقامات ثابتة.
أهمية الانشغال بالقرآن:
ولكي يصل المرء إلى هذه الحالة لابد له من كثرة قراءة القرآن ودوام التفكر في الآيات.. لابد أن تأخذ آيات القرآن وقتها الكافي مع القلب لتستقر الأحوال التي تثمرها فيه، فتنتج هذه الأحوال عبادات قلبية.. هذه العبادات ستدفع صاحبها للقيام بالأعمال الصالحة التي تعبر عنها. وهذا ما كان يفعله الصحابة رضوان الله عليهم – كما سيمر علينا بمشيئة الله في الفصل القادم – كانوا يأخذون عشر آيات فقط من النبي صلى الله عليه وسلم فيعيشون معها بكل جوارحهم فتحدث لهم أبلغ الأثر من تغيير في عقولهم، وتعبيد قلوبهم لله عز وجل، وتدفعهم لسرعة الاستجابة والمبادرة للقيام بأي عمل صالح يُعبر عن عبوديتهم التامة لربهم.. ثم ينتقلون بعد ذلك إلى غيرها.
تأمل معي حالهم وقد امتلأت قلوبهم حبًّا لله عز وجل نتيجة لتفاعلهم مع آيات القرآن التي لا تخلو من بيان سور كرمه سبحانه على عباده وإنعامه عليهم… تأمل معي وقد هاج عليهم هذا الحب والتاعت به قلوبهم، فذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرونه بذلك ويقولون له: يا رسول الله، والله إنا لنحب ربنا، فأنزل عز وجل قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران: 31].
من أجل ذلك كانوا يظلون فترة طويلة في حفظ السورة من القرآن، فلقد أتم عمر بن الخطاب حفظ سورة البقرة في اثني عشر عاما، أما ابنه عبد الله فقد أتمها في ثماني سنين.
إن حفظ سورة البقرة لا يستغرق عدة أسابيع أو شهور إن كان الأمر يقتصر على حفظ ألفاظها فقط، أما إذا كان الأمر مرتبطا بتأثير القرآن على العقل ليعيد تشكيله، وعلى القلب ليعبده لله عز وجل، فالأمر بلا شك سيختلف، وسيحتاج إلى سنين كما فعل عمر ابن الخطاب وابنه عبد الله رضي الله عنهما.
تم بتوفيق الله سبحانه