سورة الليل شأنها كشأن باقي السور المكية؛ تتناول قضايا الإيمان، وترسخ العقيدة، وتعالج سلبيات كانت منتشرة في المجتمع الجاهلي.
والسورة تتضمن جوانب مهمة من جوانب الهداية، مثل:
الجانب الأول: “من هو الله سبحانه وتعالى؟”، والذي يظهر في حنايا القسم في مطلع السورة؛ حيث يقسم الله سبحانه وتعالى بثلاثة من مخلوقاته: (الليل- النهار- خلق الذكر والأنثى).. وكذلك يظهر في بعض آيات السورة، فتظهر أسماء الله وصفاته وأفعاله – سبحانه -.
أما الجانب الثاني والبارز أيضًا في السورة فهو جانب “السنن الإلهية” التي تسير وفقها حياة الإنسان، والتي اتفقنا قبل ذلك على تسميتها بقوانين: ” البداية من العبد “؛ أي كما تكون أيها العبد وكما يكون استعدادك القلبي والنفسي كما سيعطيك الله سبحانه {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17].. {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67].. {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد: 7].. {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18].
الجانب الثالث من جوانب الهداية: هو: ” قصة الوجود”.
وتحديدًا المشهد الأخير منها حيث أهوال القيامة، ووصف حال أهلها..
كذلك تتناول السورة بعض صفات الإنسان وميوله وطباعه، وبعض الآداب والأخلاق التي يجب على المسلم التحلي بها.
والآن إلى السورة….
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل: 1، 2]
الكون المحيط بنا:
كون مطيع لربه، لا يخالف أوامره أبدًا، فقد جُبلت ذرات هذا الكون على طاعة الله وتسبيحه وعبادته، فكل يوم يُغشي الليل الأرض بظلمته، لم يعترض يومًا، ولم يتأخر عن موعده.. وفي كل يوم يتجلى النهار ويشرق بنوره وضيائه، وكما قال سبحانه: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ…} [يس: 40].
وقَسَمُ الله سبحانه بمخلوقاته دعوة للتفكر فيها وفي بديع صنعها، ولتأمل القدرة الإلهية في خلقها..
{وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [الليل: 3]
كذلك يُقسِم الله سبحانه بخلق الزوجين “الذكر والأنثى” من كل شيء على وجه الأرض، من النبات والحيوان والإنسان، فسبحان الله الخالق المبدع العظيم.
{إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل: 4]
هذا هو جواب القسم؛ أو: المُقسَم عليه.. وهنا يظهر جانب من جوانب الهداية وهو: من هو الإنسان؟
فيُسم الله سبحانه أن الناس يتفاوتون في أعمالهم واتجاهاتهم وتفكيرهم، فمنهم من يعمل للدنيا ويتهافت على تحصيل أكبر قدر من زخرفها وزينتها الزائفة، ومنهم من يعمل للآخرة، وينشغل بها، ويسعى لها سعيها، ومنهم طائفة ثالثة هي بين الطائفتين، فهي لا تنغمس في زخرف الدنيا بالكلية، وكذلك لا تنشغل بالآخرة بالكلية، فهي بين الغفلة واليقظة تتقلب بينهما..
{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} [الليل: 5، 6]
من هو الإنسان؟
قد يكون الإنسان معطاء تقيًّا، فهو يعطي ليتقي غضب الله سبحانه، وفي الوقت نفسه فإن العطاء دليل على وجود التقوى؛ أي أنه لو لم يكن تقيًّا لما أعطى؛ لأن الإنسان جُبل على حب المال وحب الامتلاك، ولكي يُعطي ويُحسن للآخرين يحتاج إلى قوة داخلية دافعة تثبته على ذلك؛ تلك القوة هي قوة الإيمان والذي من أعلى فروعه “التقوى”.
{فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 7]
السنن الإلهية:
بهذا يكتمل الطرف الثاني للمعادلة، وقد كان طرفها الأول: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} [الليل: 5، 6].. فالبداية من العبد إذن، فحينما يتقي العبد ربه في ماله الذي هو محض فضل من الله عليه، ويُعطي منه ويتصدق ويُحسن إلى المحتاجين؛ فإنه بذلك يكون مؤهلًا للمكافأة الإلهية وهي: تيسير كل أموره، وتذليل الصعاب له، وكيف لا؟! والله سبحانه مدبر الأمور، وكل شيء في هذا الكون يحدث بأمره، بل بمجرد قوله: كن..
ولذلك فقد علَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ندعو بهذا الدعاء قبل إنجاز الأعمال: “اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلًا، فأنت إذا شئت جعلت الحزن سهلًا”[1].
{وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 8 – 10]
كالآية السابقة بها جانبان من جوانب الهداية..
الأول: من هو الإنسان؟
قد يكون الإنسان بخيلًا شحيحًا، وهذا البخل والشح قد يكون فطريًا، وهذا طبع الإنسان كما أسلفنا (مالم يهتم بتزكية نفسه)، وقد يكون سببه – كما توضح الآية هنا – استغناء العبد عن ثواب ربه سبحانه وجزاءه الذي أعده للمحسنين، وهذا من أسوأ أحوال العبد، والأسوأ من هذا؛ أن يشكك في أهمية الإحسان وفضله {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى } [الليل: 9].
الثاني: السنن الاجتماعية: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 10]
نسأل الله العافية.. من يبخل ويستغني عن ثواب ربه يُعسِّر الله أموره ويضيق عليه.. بل إن بعض المفسرين قالوا في تفسير {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}: ليس فقط تعسير أموره، بل إن الله سبحانه يجعله يسلك طريق كل ما هو صعب وعسير، ويضع في طريقه كل الأمور الشاقة الشائكة.
فالبداية من العبد.. {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [هود: 101]..
فالمال مال الله، والملك ملكه، فكيف يبخل الإنسان بما لا يملكه أصلًا؟ ألا يستحق العقوبة على ذلك؟
من هو الله سبحانه؟:
هو مدبر الأمور، مقاليد كل شيء بيده، ييسر لمن شاء ولمن يستحق، ويضيق على من شاء ومن يستحق أيضًا.
وهو سبحانه “العدل” فيجازي بالإحسان إحسانًا ويزيد عليه مِنَّة وغفرانًا، وتيسيرًا وإكرامًا.
وكذلك فهو يعاقب البخلاء الأشحاء بتعسير أمورهم حتى يفيقوا من غفلتهم فيعودوا إليه ويطرقوا بابه…
وهو سبحانه إذ يبين حال الفريقين ينبهنا – رحمة بنا وحبًّا لنا – إلى ما فيه الخير والصلاح، وكأنه يقول لنا: أنفقوا وتصدقوا – من رزقي ومالي – أُيسِّر لكم أموركم، وأوسع عليكم، ولا تبخلوا فأعاقبكم بالتضييق والتعسير، فالبداية منكم {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} [محمد: 38]..
والله في الحالتين غني عن العباد، لا ينفعه إنفاق المنفق، ولا يضره إمساك البخيل، حاشاه سبحانه.
{وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [الليل: 11]
من هو الإنسان؟:
ضعيف، مسكين، قليل الحيلة، ضيق الأفق، يظن أن أمواله تنفعه أو تصرف عنه الأذى، فتراه يهلك نفسه في جمع المال وكنزه وإحصائه من وقت لآخر.. ثم يعود فيكتشف الحقيقة المرة يوم القيامة، حين لا يُغني عنه ماله شيئًا، بل ويكون وبالًا عليه وسببًا في هلاكه.. نسأل الله العافية.
{إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} [الليل: 12]
من هو الله سبحانه؟:
الله سبحانه هو الهادي، هو يبين لعباده طريق الخير والهدى الموصل إلى رضوانه وجنته، ويحببهم فيه، وييسره لهم {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7]..
والآية هنا تؤكد أن الهداية كلها تأتي من عند الله سبحانه وبفضله وكرمه وتيسيره، ولذا قال سبحانه مخاطبًا نبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56].
{وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى} [الليل: 13]
من هو الله سبحانه؟:
هو مالك الملك، يؤتيه من يشاء، وينزعه ممن يشاء، فهو يملك أمر الدنيا والآخرة {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16]..
يرفع أقوامًا ويضع آخرين، يدبر الأمر، ويقضي الحاجات..
يُجيب حاجات المحتاجين ويعطيهم من خزائنه التي لا تنفد، ويرفع الكرب عن المكروبين، وينصر الضعفاء والمظلومين، ويمهل الطغاة الظالمين ثم لا يهملهم.. فهو الملك سبحانه..
يتبع في الحلقة القادمة بمشيئة الله
[1] صحيح: أخرجه ابن حبان، والديلمي.