من فوائد النظر في حق الله:
إذن فكثرة التفكر والنظر في حق الله ودينه علينا لها كثير من الفوائد التي من شأنها أن تعيننا على استصغار أنفسنا وأعمالنا.
فمن هذه الفوائد:
1 – عدم رؤية العمل الصالح أو الاعتماد عليه: بل استصغاره، والنظر إليه بعين النقص مهما كان اجتهاد العبد، فالذي يجتهد ويجتهد ثم يسدد بضعة دراهم من دينه البالغ المليون دينار، لن يشعر بأنه قدم شيئًا يذكر، فتراه دومًا مستصغرًا ما يقدمه لدائنه طامعًا في عفوه.
2 – عدم احتقار الآخرين أو الشعور بالأفضلية عليهم: فالكل مدين لله عز وجل، ولا يسع الجميع سوى عفوه، وإلا فالنار مصير من لم يدركه ذلك العفو.
فالذي يقدم خمسة دراهم لصاحب الدين الكبير لن يشعر بأنه أفضل ممن قدم درهمًا أو نصف درهم فالكل مقصر، والكل يستحق العقوبة، ولا أمل إلا في المسامحة والعفو.
3 – الخوف الدائم من عدم قبول العمل: فمن الطبيعى ألا يقبل صاحب الدين الكبير، سداد جزء يسير منه، فإن قبله فهذا محض فضل وإحسان منه.
4 – الحذر الشديد من السكون إلى النفس أو الإعجاب بها: حتى لا يتعرض العبد لمقت الله و معاملته بالعدل لا بالإحسان، كما قال تعالى: ﴿ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾ [ التكاثر: 8 ].
يقول ابن القيم: فمن أنفع ما للقلب: النظر في حق الله على العبد، فإن ذلك يورثه مقت نفسه، والإزراء عليها، ويخلصه من العُجب ورؤية العمل، ويفتح له باب الخضوع والذل والانكسار بين يدى ربه واليأس من نفسه، وأن النجاة لا تحصل إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته[1].
5 – سؤال الجنة استجداء لا استحقاقًا: فمن تفضل الله عليه، وقبل عمله، وتجاوز عن حقه وعفا عنه، أدخله الجنة ورفعه في درجاتها بهذا العمل القليل الذى أداه.. رحمة منه – سبحانه – وفضلًا.
( ولا ينافى هذا ما أحقه سبحانه على نفسه من إثابة عابديه وإكرامهم، فإن ذلك حق أحقه على نفسه بمحض كرمه وبره وجوده وإحسانه لا باستحقاق العبيد، أو أنهم أوجبوه عليه بأعمالهم)[2].
وسائل المعرفة:
التعرف على الله المنعم، وحقه المستحق علينا يستدعي منا معرفة نعمه علينا، وكلما توسع العبد في معرفة النعم ازداد شعوره بالتقصير في حق مولاه…
كيف نتعرف على النعم؟
1 – من خلال القرآن:
أفاض القرآن في تعريف الناس بنعم الله عليهم، وحق هذه النعم، فعلينا بتتبع الآيات التي تتحدث في هذا الموضوع، ونحصي من خلالها نعم الله علينا. كقوله تعالى: ﴿ فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [ النحل: 114 ].
وقوله: ﴿ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78].
2 – من خلال أحداث الحياة:
وذلك من خلال تفكر الواحد منا في نعم ربه عليه، وحبذا لو تم تسجيلها لتسهل العودة إليها كل فترة…
ومن معينات عد النعم: رؤية أهل البلاء، فما من مرض أو نقص يصيب إنسانًا، ولم تصب أنت به إلا ويعكس نعمة من نعم العافية لديك.
وكذلك ما من معصية تحدث على ظهر الأرض ولا تفعلها إلا وتعكس نعمة من نعم العصمة الإلهية لك.
3 – مجالس ذكر النعم:
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ [المائدة: 11].
فمجالس ذكر النعم من الأهمية بمكان للتعرف على الله المنعم، واستشعار تقصيرنا في حقه… هذه المجالس عبادة عظيمة، يباهي الله بها الملائكة، فعن أنس ابن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” إن لله سيارة من الملائكة يطلبون حلق الذكر فإذا أتوا عليهم حفوا بهم ثم بعثوا برائدهم إلى رب العزة تبارك وتعالى، فيقولون: ربنا أتينا على عباد من عبادك يعظمون آلاءك، ويتلون كتابك، ويصلون على نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ويسألونك لآخرتهم ودنياهم، فيقول تبارك وتعالى: غشوهم رحمتي، فيقولون يا رب إن فيهم فلانًا الخطاء، إنما اغتبقهم اغتباقًا، فيقول تبارك وتعالى: غشوهم رحمتي، فهم القوم لا يشقى بهم جليسهم”[3].
.. جلس الفضيل بن عياض، وسفيان بن عيينه ليلة إلى الصباح يتذكران النعم، فجعل سفيان يقول: أنعم الله علينا في كذا، أنعم الله علينا في كذا، فعل بنا كذا، فعل بنا كذا[4].
4 – التفكر في النعم:
ومع إحصاء النعم، علينا أن نتفكر في كل نعمة على حده، وما فيها من جوانب مختلفة للمدد الإلهي، فعلى سبيل المثال: التفكر في الطاعة وكم نعمة أنعمها الله عليك لكي تقوم بها.
يقول أبو حامد الغزالي: أما نعمة عليك في الطاعة فقد: أمكنك منها وأعطاك الآلة، وأزاح عنك العوائق حتى تفرغت لهذه الطاعة، وخصك بالتوفيق والتأييد ويسرها عليك، وزينها في قلبك حتى عملتها، ثم مع جلاله وعظمته واستغنائه عنك، وعن طاعتك وكثرة نعمه عليك، أعد على هذا العمل اليسير الثناء الجزيل والثواب العظيم الذي لا تستحقه[5].
5 – المغفرة أولًا:
علينا أن نبحث في القرآن عن الآيات التي تقرر حقيقة أن دخول الجنة، والنجاة من النار، إنما هي محض فضل ورحمة من الله عز وجل ﴿ يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ ﴾[ الدخان: 41، 42 ].
وأن سعينا واجتهادنا لا يستحق بذاته دخوله الجنة، وإنما هو للتعرض لرحمة الله ومغفرته ﴿ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [ الحديد: 21 ].
فبكثرة النظر في مثل هذه الآيات، يترسخ مدلولها في العقل الباطن عند الإنسان، لتنطلق أفكاره وخواطره منها، ويوقن بأنه إما عفو الله أو النار….
[1] إغاثة اللهفان لابن القيم 1/ 143 – المكتب الإسلامي – بيروت. [2] تهذيب مدارج السالكين. [3] رواه البزار بإسناد حسن. [4] الشكر لابن أبي الدنيا. [5] منهاج العابدين لأبي حامد الغزالي ص 221 – مكتبة الجندى – القاهرة.