طبيعة النفس:
ومع كون الإنسان ضعيفًا وعاجزًا وجاهلًا وفقيرًا إلى الله عز وجل فقرًا مطلقًا وذاتيًا، فإن لنفسه طبيعة تتنافى مع هذه الصفات.
فهي نفس شحيحة تحب الاستئثار بكل خير ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾ [النساء: 128].
لديها قابلية للطغيان والفجور ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا﴾ [الشمس: 11].
تحب العلو والتميز عن الآخرين.
ترغب دومًا في الراحة، وتكره المشاق والتكاليف.
تريد شهوتها وحظها من كل فعل يقوم به العبد – وإن كان فيه حتفها – فهي لا تنظر إلى العواقب.
يقول المحاسبي: إن النفس لو تُركت لما فعلت أي طاعة، وما تركت أي معصية..
.. لماذا؟!
لأن محبتها في خلاف ذلك. فالعبد لايكاد يأتي برًا إلا وشهوة نفسه في ضده[1].
.. ألم يستعذ من شرها رسولنا صلى الله عليه وسلم .. بقوله: ” ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا “.
وقال صلى الله عليه وسلم لحصين بن المنذر: ” قل اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي “.
مقت النفس:
فالنفس – كما يقول الآجري – أهل أن تمقت في الله.
لأنها تدعوني لسلوك سبيل الضلال.
وتصرفني عما يرضي الله، وتوقعني فيما يبغضه[2].
” فالحمد لله وحده والذم لها، والحذر والخوف منها، وترك الطمأنينة إليها لمعرفتك بها، فمن عرف نفسه زال عنه العُجب، وعظم شكر الرب عز وجل، واشتد حذره منها، والثقة والطمأنينة إلى المولى عز وجل، والمقت لها، والحب للمتفضل المنعم.
.. وتذكر: لو كان لك صاحبان حولك وأنت نائم، فأراد أحدهما أن يقتلك ومنعه الآخر فماذا ستكون مشاعرك نحوهما؟!
فكم من بلية قد أرادتها بك نفسك فعزم الله عز وجل أن تتركها وأيقظك وأزال عنك غفلتك فعصمك منها.
وكم من حق الله هممت بتضييعه، فأبى الله عز وجل إلا أن يوقفك لخلاف ما هممت به.
فقد وجب عليك المقت لنفسك، والحذر منها، وترك إضافة العمل إليها، بل تحمده وحده بكل ما نلت من بر وطاعة” [3].
كيف كان الصالحون ينظرون إلى أنفسهم؟
يقول ابن القيم: ومقت النفس في ذات الله من صفات الصديقين، ويدنوا العبد به من الله سبحانه وتعالى في لحظة واحدة أضعاف ما يدنو به من العمل[4].
كان أبو بكر الصديق يقول: لو يعلم الناس ما أنا فيه لأهالوا عليَّ التراب.
ومشى قوم خلف عبد الله بن مسعود فقال لهم: ارجعوا فإنها ذلة للتابع، وفتنة للمتبوع، وقال: لو تعلمون ما أعلم من نفسي حثيتم على رأسي التراب.
وهذا المَرُّوذي تلميذ الإمام أحمد بن حنبل يقول: ذكر أمام ابن حنبل أخلاق الورعين فقال: أسأل الله عز وجل أن لا يمقتنا، أين نحن من هؤلاء؟!
وكان رجل من بني إسرائيل له عند الله حاجة، فتعبد واجتهد ثم طلب إلى الله حاجته، فلم ير نجاحًا، فبات مزريًا على نفسه، وقال: يا نفس، مالك لا تقضي حاجتك، فبات محزونًا قد أزرى على نفسه.. وقال: أما والله ما مِن قِبل الله أوتيت، ولكن من قبل نفسي أوتيت، فبات ليلة مزريًا على نفسه وألزم الملامة، فقضيت حاجته[5].
هل يمكن للنفس أن تأمر بخير؟!
يجيب عن هذا السؤال المحاسبي فيقول:
إن كون النفس أصحبت تؤدي بعض الطاعات بسهولة ويسر ليس معناه أنها تحب ذلك، بل إن قوة عزمك التي وهبك إياهًا المولى، والخوف من الآخرة قهرها، ولو وجدت منك فترة لرجعت إلى أحوالها، ولرفضت الطاعة لله عز وجل.
ويضرب المحاسبي مثالًا لذلك بالأسير الذي كان يحاول الفتك بك، فقهرته، وأسرته وصار طوع أمرك, هل تأمن له بعد ذلك؟! وهل سيطيعك راضيًا مختارًا أم أنه ينتظر منك التفاته لينقض عليك[6]؟!.
إذن فنسظل في جهاد مع أنفسنا حتى الموت، وكما قال أحد الصالحين: يموت المؤمن وسيفه يقطر دما.
كيف نتعامل مع أنفسنا؟
من هنا يتضح لنا – كما يقول الماوردي -: أنه لابد من تأديب النفس، فإن أغفل تأديبها تفويضًا إلى العقل، أو توكلًا على أن تنقاد إلى الأحسن بالطبع: أعدمه التفويض درك المجتهدين، وأعقبه التوكل ندم الخائبين[7].
وأولى مقدمات أدب الرياضة:
أن لا يسبق إلى حسن الظن بنفسه، فيخفى عليه مذموم شيمه، ومساوئ أخلاقه، لأن النفس بالشهوات آمرة، وعن الرشد زاجرة[8].
فإن كان الأمر كذلك فلابد إذن من القيام بمثل هذه الأعمال:
1 – سوء الظن الدائم بالنفس ودوام الحذر منها.
2 – إلجامها بلجام الخوف لتسهل قيادتها.
3 – مقاومة إلحاحها للإعجاب بها.
4 – محاسبتها.
5 – دوام التوبة.
يتم التفصيل في هذه النقاط في الحلقة القادمة بمشيئة الله
[1] الرعاية لحقوق الله ص435. [2] أدب النفوس للآجري ص 16 – مكتبة لينا – دمنهور – مصر. [3] الرعاية لحقوق الله للمحاسبى ص 435، 436. [4] إغاثة اللهفان 1/ 143. [5] الزهد للإمام أحمد / 144. [6] الرعاية لحقوق الله للمحاسبى ص 435، 436.[7] أدب الدنيا والدين ص 226.
[8] المصدر السابق ص 229.